أزمات اللاجئين والنزوحالأزمات الإقليميةالأمن القومي والدفاع العسكريالاستخباراتالحركات المسلحةالسيادة والنزاعات الحدوديةالنزاعات الداخلية والإقليميةالنزاعات الداخلية والاجتماعيةتقدير المواقف

جنوب السودان وشبح الدولة الفاشلة

مقدمة:

تراكمت الأزمة في جنوب السودان بعد أسابيع من التوتر المكتوم بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك مشار والأطراف الداعمة لهما حتى وصلت إلى الصدام المباشر في ولاية أعالي النيل وعلى نحو بات يهدد بوقوع حرب أهلية جديدة كانت قد وضعت اوزارها في العام 2018 بعد اتفاق سلام بين الرئيس ونائبه. وفيما كانت جنوب السودان تواجه إشكالات تمويل موازنتها ومواجهة الآثار الاقتصادية الحادة الناتجة عن وقف صادرات البترول الجنوب سوداني (المسئول عن أكثر من 90% من متحصلات الحكومة من العملة الصعبة) منذ بدء الأزمة السودانية في أبريل 2023([1]).

قراءة في تطور مشهد الأزمة الجنوب سودانية: ما بعد أعالي النيل؟

تتجه دولة جنوب السودان نحو تجدد كامل للصراع الأهلي ([2])، وتجلت مؤشرات ذلك في استيلاء ما يعرف “بالجيش الأبيض”، وهو إحدى ميليشيات إثنية النوير المرتبطة برياك ماشار، نائب الرئيس سلفا كير، على مدينة الناصر على الحدود مع إثيوبيا في الرابع من مارس الجاري، وأكد قادة “بالجيش الأبيض” طردهم “القوات الحكومية من المدينة الاستراتيجية”، كما أكد مسئولون حكوميون بولاية أعالي النيل استيلاء عناصر الميليشيا على “ثكنات الجيش في الناصر” فيما تجاهلت جوبا التعليق على الأحداث تفصيلًا. واكتفى مسئولون عسكريون بتعليقات على صفحات التواصل الاجتماعي توضح أن الجيش “ليس في وضع يسمح له بتقديم إحاطة إعلامية حول الوضع الأمني في الناصر”. وجاء هذا التصعيد بعد أيام قليلة من اتهام ماشار للجيش بقياد سلفا كير بشن هجمات عل قواته في مقاطعة أولانج Ulangالقريبة من العاصمة جوبا في 25 فبراير الفائت ([3])، وكذلك على الموالين له في منطقتين من غرب البلاد. وينبه مراقبون إلى خطورة الأزمة الحالية في جنوب السودان مع احتمالات تشابكها من التطورات الأخيرة في الأزمة في السودان، في إشارة ربما إلى تعاظم أدوار القوى الإقليمية (مثل إثيوبيا وكينيا وأوغندا) في إذكاء الأزمة في السودان وفي جنوب السودان، وبدعم من قوى من خارج القارة.

وفي 5 مارس ألقت القوات الجنوب سودانية القبض على وزير البترول وعدد من كبار المسئولين العسكريين المتحالفين مع رياك ماشار. وجاءت الخطوة عقب تصاعد القتال بين قوات كير وماشار في الأسابيع الأخيرة في مدينة الناصر الاستراتيجية. كما تم نشر قوات حكومية حول مقر إقامة ماشار في جوبا. وجاء هذا التحرك على خلفية اتهامات حكومية (على لسان وزير الإعلام مايكل ماكوي) لماشار بدعم قوات تابعة له ميليشيات الجيش الأبيض في هجومه على مدينة الناصر. وتؤشر هذه التطورات إلى نهاية وشيكة لاتفاق 2018 على الأرض ([4])، ويعزز هذا التوقع تزايد وصول الأطراف المتعارضة إلى الأسلحة بسبب الأزمة في السودان وبالأساس وصول شحنات أسلحة مهربة من دول مثل الإمارات وتشاد إلى قوات ميليشيات الدعم السريع يسهل أن تجد طريقها إلى داخل جنوب السودان لأسباب متنوعة([5]).

كما يلاحظ مجيء تحرك الجيش النوب سوداني بعد أسابيع من تحذيرات علنية أطلقها ماشار من أن إقدام الرئيس سلفا كير على إقالة عدد من أبرز حلفاء ماشار السياسيين من المناصب الحكومية يهدد مجمل اتفاق السلام في العام 2018. وعلى خلفية هذا التصعيد الخطير طالب جنوب سودانيون من أطياف مختلفة بالإفراج الفوري عن جميع المسئولين المعتقلين، خوفًا من تحول الصراع العسكري الراهن إلى حرب شاملة تجتاح البلاد، لاسيما أن هذا الصراع هو الأخطر بكافة المقاييس منذ العام 2018، وما تشهده البلاد بالفعل من أزمة سياسية خانقة بعد تأجيل سلفا كير للانتخابات الرئاسية (بحجة عدم وجود مخصصات مالية لتمويل العملية الانتخابية) التي كانت مقررة في العام 2024 وبات من المقرر انعقادها في العام المقبل 2026([6]).     

الأزمة والعامل السوداني؟

فيما نجح اتفاق السلام الموقع بين كير وماشار في العام 2018 في وضع نهاية للحرب الأهلية التي شهدها جنوب السودان، والحيلولة دون استمرار الاشتباكات المباشرة بين قوات الجانبين على نطاق موسع، فإن البلاد شهدت من حين لآخر موجات عنف متكررة على المستوى المحلي. لكن الأزمة السودانية التي استعرت منذ أبريل 2023 عقب محاولة ميليشيات الدعم السريع الاستيلاء على السلطة وتقويض مؤسسات الدولة السودانية الشرعية ألقت بظلالها على مجمل الأوضاع في جنوب السودان من عدة نواح أهمها:

  • فقد جنوب السودان ثلثا عائداته الحكومية بعد انفجار خط انابيب البترول الموجه للتصدير قرب العاصمة السودانية الخرطوم في العام 2024، وما أدى إليه استمرار القتال في الجارة الشمالية من صعوبة عمليات إصلاح الخط، وهو الأمر الذي أوقف تدفق صادرات البترول الجنوب السوداني حتى الوقت الحالي، مع ملاحظة أن هذه الصادرات تمثل أكثر من 90% من إجمالي عائدات جوبا من العملة الصعبة.   
  • أن التداعيات الاقتصادية لوقف صادرات البترول الجنوب السوداني قد حرمت الرئيس الجنوب السوداني سلفا كير من المخصصات المالية التي حافظت على شبكات الولاء له، ومن ثم قيدت قدرته على الحفاظ استمرار نظامه فاعلًا متماسكًا مقارنة بما قبل أبريل 2023.
  • توقعات تداخل خطوط الاشتباك بين الصراع في السودان ونظيره الكامن (حتى نهاية فبراير 2025) في جنوب السودان، لاسيما بعد فشل سلفا كير في الحفاظ على “مسافة واحدة” من طرفي الصراع في السودان، في مقابل صعود دور ماشار الراهن والمرتقب في موازنة موقف جنوب السودان من هذا الصراع (أخذًا في الاعتبار نهاية خط الأنابيب في مدينة بورتسودان، وسيطرة قوات حميدتي على مساحات يمر بها الخط نفسه).
  • تآكل شعبية كير مع تبدلات مواقف سياساته الخارجية بدعم ميليشيات الدعم السريع في الشهور الأخيرة بتنسيق واضح مع الإمارات أملًا في تجاوز أزمته المالية الخانقة، والتهديدات التي تفرضها متغيرات دعم كير لميليشيات الدعم السريع التي دخلت في تحالف مع حركة التحرير الشعبية – شمال النشطة في جنوبي السودان، والتي تحظى بالأساس بدعم جوبا مما يعزز سيناريو تشابك خطوط الاشتباكات عبر الحدود بين البلدين. 
  • يمثل رياك ماشار حليفًا تكتيكيًا مثاليًا للنظام السوداني بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، وهو خيار ستتضح معالمه في الأسابيع المقبلة. 

المواقف الإقليمية: تعقيدات المصالح وحماية نظام سلفا كير

تأتي الأزمة الراهنة في جنوب السودان وسط تغيرات إقليمية ملموسة في القرن الأفريقي الكبير؛ ويأتي في قلب هذه التغيرات تشابكات أدوار الأطراف الإقليمية التقليدية الفاعلة مثل الإمارات وإثيوبيا وتركيا. ويمكن رصد هذه المواقف على النحو التالي

  1. الإمارات: باتت الإمارات الحاضنة المالية الرئيسة لنظام سلفا كير عبر تقديم حزم من المساعدات (المشروطة بشراء مسبق للبترول الجنوب السوداني وبأسعار تفضيلية لصالح الأولى) ودعم الموازنة (على غرار دعم أبو ظبي لنظام آبي أحمد بودائع بليونية قبل أعوام قليلة). وكان سلفا كير ضيفًا على أبو ظبي قبل شهر تقريبًا (8 فبراير) حيث استقبل رئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان وناقشا فرص توسيع الصلات بين بلديهما في مجالات الاقتصاد والاستثمار والزراعة والطاقة المتجددة والبنية الأساسية. إلى جانب مناقشة القضايا ذات الاهتمام المشترك بينهما مثل المسألة السودانية والوضع في جمهورية الكونغو الديمقراطية المجاورة لجنوب السودان. ومن الملفت أن هذه القمة جاءت بعد لقاء هام ومؤشر بين وزير الدولة الإماراتي شخبوط بن نهيان آل نهيان وكير في العاصمة جوبا نهاية نوفمبر 2024 ويمكن اعتباره “ورقة سياسات” مستقبل العلاقات بين البلدين في واقع الأمر ([7]). وفيما بين هذين اللقاءين توصلت أبو ظبي وجوبا في 31 يناير 2025 إلى اتفاق، باغت في واقع الأمر الدوائر السياسية والاقتصادية في السودان وجنوب السودان، يمنح الإمارات سيطرة على إنتاج جنوب السودان من البترول لمدة 20 عامًا (تبدأ في يناير 2025 وتنتهي في يناير 2044)، بينما ربط معارضون جنوب سودانيون جهود أبو ظبي قبل مارس الجاري باحتواء الصدام بين كير وقادة عسكريون مناهضون لسياساته وجهود الأخيرة في القرن الأفريقي وإقليم البحيرات الكبرى حيث يؤيد هؤلاء القادة عمليًا سياسات الإمارات في هذين الإقليمين. وهكذا فإن الأزمة الراهنة ربما تعصف بكافة حسابات أبو ظبي في أبو السودان.  
  2. إثيوبيا: تعمل إثيوبيا بكل قوة على دعم نظام الرئيس سلفا كير لعدة اعتبارات منها ضمان اصطفاف جوبا خلف جميع المواقف الإثيوبية في الإقليم (لاسيما المسألة السودانية)، وضمان استمرار مواقف سلفا كير تجاه مصر (منذ توقيع جوبا على اتفاقية عنتيبي)، وتعزيز الشراكة مع الإمارات في الإقليم من بوابة جنوب السودان التي تمتد حدودها مع تشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيرها من الدول التي تشهد نشاطًا إماراتيًا حثيثًا لنهب مواردها بكافة السبل الممكنة. وهكذا لم يكن مباغتًا إقدام إثيوبيا على توقيع اتفاق مع جوبا (7 مارس الجاري) لترقية العلاقات الثنائية بين البلدين ورفعها على مستوى “الشراكة الاستراتيجية”، وجاء ذلك خلال قمة بين وزيري خارجية البلدين جيديون تيموثيوس ورمضان محمد جوك([8]).  

سيناريوات الأزمة

تنفتح الأزمة في جنوب السودان على عدة سيناريوات يمكن عرضها على النحو التالي:

السيناريو الأول- وقوع حرب أهلية ثانية (بعد الاستقلال)

ويعزز هذا السيناريو الوضع الراهن وحالة الاستقطاب السياسي المتصاعدة مع تحركات على الأرض لن تقتصر على ولاية أعالي النيل. كما يبدو أن حظوظ توفيق المواقف بين الرئيس سلفا كير ونائبه رياك ماشار في حدودها الدنيا أكثر من أي وقت مضى منذ توقيع اتفاق السلام بينهما في العام 2018. كما أن حالة الفوضى التي شهدتها حدود جنوب السودان مع جارتها الشمالية (السودان) تؤشر إلى تدفقات غير محددة الحجم من الأسلحة غير المشروعة إلى داخل جنوب السودان، وهو ما يعني توفر قوة قتالية لدى أطراف الحرب المحتملة (لاسيما ميليشيات النوير وقوات سلفا كير ذات الخلفية الدينكاوية). 

السيناريو الثاني- حسم سلفا كير الأزمة لصالحه

ويقوم هذا السيناريو على فرضية استمرار الدعم الإماراتي والإثيوبي (الثنائي أو المشترك) لجوبا وتعظيمه في الفترة المقبلة، وهو ما بدت مؤشراته في رفع إثيوبيا مستوى علاقاتها مع جنوب السودان لمستوى “الشراكة الاستراتيجية” في خضم الأزمة ما يعني أهمية كبيرة للتوقيت. ومن المتوقع أن تضخ الإمارات دعمًا ماليًا عاجلًا لسلفا كير في الأسابيع القليلة المقبلة مما سيرجح كفته في الأزمة الراهنة وقدرته على مواجهة ماشار. 

السيناريو الثالث- حدوث مصالحة تكتيكية بين كير وماشار

وهو سيناريو يظل قائمًا وغن كان مرهونًا بالأساس بوجود رؤية سياسية وطنية لدى كير وماشار، ودفع الأطراف الإقليمية المرتقب تجاه هذه المصالحة. 

بأي حال فإن التدخل الخارجي في الأزمة قد يكون هو العامل الحاسم في تحقق أيًا من السيناريوات السابقة كليًا أو جزئيًا.

الهوامش:

As South Sudan’s oil revenues dwindle, even the security forces haven’t been paid in months, Associated Press, August 9, 2024 https://apnews.com/article/south-sudan-oil-exports-economy-civil-servants-1727c6a6d13d3b539ec2fa993eccf310

South Sudan on the Precipice of Renewed Full-blown War, International Crisis Group, March 7, 2025 South Sudan on the Precipice of Renewed Full-blown War https://www.crisisgroup.org/africa/horn-africa/south-sudan/south-sudan-precipice-renewed-full-blown-war

Airstrikes in Upper Nile as tensions escalate, Radio Tamazuj, February 25, 2025 https://www.radiotamazuj.org/en/news/article/airstrikes-in-upper-nile-as-tensions-escalate

South Sudan detains oil minister and military officials in threat to peace deal, Reuters, March 7, 2025 https://www.reuters.com/world/africa/south-sudan-detains-oil-minister-several-military-officials-says-vice-presidents-2025-03-05/

Deng Machol, Army surrounds South Sudan vice president’s home as his allies are arrested, AP, March 5, 2025 https://apnews.com/article/south-sudan-tension-violence-fighting-upper-nile-c0083aec9f62e325bbf53eef94638e8c

Fardol W. Dicken, South Sudan Postpones Elections To 2026: A Move Toward Inclusivity and Stability, Wilson Center, February 5, 2025 https://www.wilsoncenter.org/article/south-sudan-postpones-elections-2026-move-toward-inclusivity-and-stability

Shakhboot Bin Nahyan Meets President of South Sudan, United Arab Emirates, ministry of Foreign Affairs, November 2024, 23 https://www.mofa.gov.ae/en/mediahub/news/2024/11/23/23-11-2024-uae-south-sudan

 Ethiopia’s FM Gedion in South Sudan, Delivers Message to Salva Kiir, Borkena, March 8, 2025 https://borkena.com/2025/03/08/ethiopia-fm-gedion-in-south-sudan-delivers-message-to-salva-kiir/


[1] As South Sudan’s oil revenues dwindle, even the security forces haven’t been paid in months, Associated Press, August 9, 2024 https://apnews.com/article/south-sudan-oil-exports-economy-civil-servants-1727c6a6d13d3b539ec2fa993eccf310

[2] South Sudan on the Precipice of Renewed Full-blown War, International Crisis Group, March 7, 2025 South Sudan on the Precipice of Renewed Full-blown War https://www.crisisgroup.org/africa/horn-africa/south-sudan/south-sudan-precipice-renewed-full-blown-war

[3] Airstrikes in Upper Nile as tensions escalate, Radio Tamazuj, February 25, 2025 https://www.radiotamazuj.org/en/news/article/airstrikes-in-upper-nile-as-tensions-escalate

[4] South Sudan detains oil minister and military officials in threat to peace deal, Reuters, March 7, 2025 https://www.reuters.com/world/africa/south-sudan-detains-oil-minister-several-military-officials-says-vice-presidents-2025-03-05/

[5] Deng Machol, Army surrounds South Sudan vice president’s home as his allies are arrested, AP, March 5, 2025 https://apnews.com/article/south-sudan-tension-violence-fighting-upper-nile-c0083aec9f62e325bbf53eef94638e8c

[6] Fardol W. Dicken, South Sudan Postpones Elections To 2026: A Move Toward Inclusivity and Stability, Wilson Center, February 5, 2025 https://www.wilsoncenter.org/article/south-sudan-postpones-elections-2026-move-toward-inclusivity-and-stability

[7]Shakhboot Bin Nahyan Meets President of South Sudan, United Arab Emirates, ministry of Foreign Affairs, November 2024, 23 https://www.mofa.gov.ae/en/mediahub/news/2024/11/23/23-11-2024-uae-south-sudan

[8] Ethiopia’s FM Gedion in South Sudan, Delivers Message to Salva Kiir, Borkena, March 8, 2025 https://borkena.com/2025/03/08/ethiopia-fm-gedion-in-south-sudan-delivers-message-to-salva-kiir/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى