الأمنالإرهابالاستخباراتالحركات المسلحةتقدير المواقفصنع السلام

روسيا والسيناريو السوري في أفريقيا: ليبيا والساحل أولًا؟

مع تسارع الأحداث في سوريا ظهرت تقارير روسية عن محادثات أولية تجريها موسكو مع “هيئة تحرير الشام”، التي استولت على العاصمة دمشق (8 ديسمبر الجاري)، بشأن مصير قواعدها البحرية والجوية في الأراضي السورية؛ مع صعود اتهامات إعلامية روسية لإيران بعدم التنسيق الضروري معها بخصوص التطورات الأخيرة وعدم إسنادها لضربات موسكو الجوية منذ نهاية نوفمبر الماضي، ولم يفت وسائل الإعلام الروسية اتهام أبو محمد الجولاني بأنه “عميل للمخابرات المركزية الأمريكية”([1]). وتعتمد روسيا اعتمادًا كبيرًا على قاعدتي حميميم وطرطوس في سوريا لتقديم الوقود لمعداتها أسلحتها المتمركزة فيهما، ومن ثم القيام بعمليات في أفريقيا دون تكلفة كبيرة، وتوفر توسعًا كبيرًا لأنشطتها العسكرية والسياسية والاقتصادية في أفريقيا؛ وهو ما يؤشر إلى خسارات روسية مرتقبة، وتوقعات مهمة بسعي روسيا -حال جدية اقترابها من الدول الأفريقية باستراتيجية دعم وتعاون على المدى البعيد- لتعميق نفوذها وتنويع جوانبه في الدول الأفريقية خارج المظلة العسكرية والأمنية وحدها.  

أفريقيا ومعضلة روسيا في سوريا: ما الصلة؟

لعبت كل من قاعدة طرطوس الروسية البحرية في المدينة السورية الساحلية، وقاعدة حميميم الجوية، التي حصلت عليها موسكو في العام 2015 كمكافأة لدورها في ضرب قواعد المعارضة لنظام بشار الأسد عقب أحداث الربيع العربي، دورًا مهمًا في إسناد عمليات روسيا في أفريقيا، لاسيما مع افتقار الأولى لقواعد دائمة في البحر المتوسط والبحر الأحمر، واستضافت القاعدتان عددًا من أكثر الطائرات الروسية المقاتلة تقدمًا، كما عملت كنقاط توقف لإعادة تزويد الطائرات العسكرية وغيرها المتجهة إلى أفريقيا بالوقود. مع ملاحظة أن قاعدة طرطوس، التي بناها السوفييت في الأصل في العام 1971، قد حُدثت على يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الفترة 2012-2015 على نحو يتفق مع توجهاته في أفريقيا حسب وسائل إعلام غربية. كما يسرت قاعدة طرطوس البحرية قدرة روسيا على إعادة نشر نحو 20 ألف جندي روسي (أو من جنسيات أخرى تحت قيادة روسية) في مواقع مختلفة في أفريقيا مثل ليبيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو ([2]). وتوضح هذه المعطيات حجم الخسارة المتوقعة لروسيا في أفريقيا، حال تغيير الوضع القائم لقواتها في هاتين القاعدتين بعد رحيل نظام بشار الأسد. 

ورأى مراقبون ليبيون مطلعون أنه في حال حرمان روسيا من جسر جوي يعتمد عليه (بين قواعدها في سوريا ونقاط ارتكازها في ليبيا) فإن قدرة روسيا على الحفاظ على زخم قوتها في أفريقيا (ككل) ستنهار، كما أن “استراتيجية عمل روسيا بأكملها في البحر المتوسط وأفريقيا” نتيجة صعوبات لوجيستية لا يمكن التغلب عليها حال اضطرار موسكو العمل من قواعدها مباشرة نحو القواعد الجوية الليبية (الخديم، والجفرة، وغردابية وبراك الشاطئ). كما أكد خبراء روس أن جميع إمدادات روسيا على أفريقيا تمر من قاعدة حميميم السورية، لاسيما تلك الموجهة إلى جمهورية أفريقيا الوسطى ([3]).  

الوجود الروسي في ليبيا على المحك

إضافة إلى الضربة المعنوية الكبيرة التي لحقت بروسيا ودورها في مناطق وجودها في أفريقيا فإن مجمل هذا الوجود بات على المحك تمامًا في الحالة الليبية. فليبيا هي أقرب نقاط وصول القوات الروسية من قواعدها في سوريا إلى القارة الأفريقية، ولاسيما ميناء طبرق الواقع شمالي ليبيا (لا تتجاوز المسافة بين طرطوس وطبرق 700 ميل) والذي شهد في السنوات الأخيرة وصولًا منتظمًا لسفن الشحن الروسية العسكرية التي نقلت كميات هائلة من المعدات العسكرية لليبيا (قدرتها مصادر غربية في ربيع العام الجاري بعشرات الأطنان شهريًا)، وزادت وتيرتها بعد زيارة يونس- بيك يفكوروف (نائب وزير الدفاع الروسي) لطبرق ولقائه بها بالمشير خليفة حفتر. واحتوت الشحنات المنقولة (حسب مواقع ليبية معنية) من ميناء طرطوس إلى طبرق ناقلات جنود مسلحة، ومنصات إطلاق صواريخ ([4]).  

وسيؤثر التغيير المرتقب في وضع القوات الروسية في سوريا بشكل مباشر على وضعها في شرقي ليبيا، الذي بات بالفعل منصة الانطلاق الرئيسة لروسيا في أفريقيا، ولاسيما إلى دول الساحل المجاورة لليبيا أو القريبة منها. ويتوقع أن يؤدي أي اضطراب في سلاسل الإمداد الروسية (العسكرية والأمنية) من ميناء طرطوس السوري إلى ميناء طبرق إلى آثار سلبية على دعم روسيا للجيش الوطني الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر. كما يتوقع أن تتوقف قدرة موسكو على تجنيد عناصر سورية (أو أجنبية انطلاقًا من سوريا) في صفوف مجموعة فاغنر العاملة في ليبيا أو غيرها من الدول الأفريقية. 

ويتضح هذا التأثير المرتقب في صلة موسكو بحفتر، الذي تعززت الشكوك في ولائه التام لواشنطن وصلاته الاستخباراتية القديمة مع جهاز المخابرات المركزية حسبما رشح من حرص واشنطن على عدم إضعافه أو خروجه من معادلة السياسة الليبية رغم تجاوزاته المعروفة. فقد عمد حفتر بشكل كبير إلى توطيد صلته بروسيا (التي زارها بشكل مستمر في السنوات الأخيرة، وأبرزها توجهه في اليوم التالي من زيارة قائد الأفريكوم ومبعوث الولايات المتحدة الخاص لليبيا ريتشارد نورولاند لمدينة درنة (عقب الكارثة التي ألمت بها في سبتمبر 2023) إلى مدينة موسكو في زيارة مهمة؛ الأمر الذي اعتبره مراقبون أمريكيون تلاعبًا من قبل حفتر بسياسات الإدارة الأمريكية. 

ومع ترقب العالم إطلاق سياسات الرئيس المنتخب دونالد ترامب رسميًا في يناير المقبل كان الوجود الروسي في ليبيا محل انتقادات صريحة في اجتماع وزراء خارجية مجموعة السبعة الكبار “لدور روسيا الخبيث في ليبيا، الذي يحجم السيادة الليبية والأمن الإقليمي” ودعا بيان الاجتماع نهاية نوفمبر الماضي إلى “سحب جميع المقاتلين والمرتزقة الأجانب”([5])؛ كما يلاحظ تزامن التطورات في سوريا مع أخرى في ليبيا، فيما يتعلق بالصلة الروسية، إذ تزايدت مطلع ديسمبر الجاري -حسب تقارير إعلامية مطلعة- حجم تدفقات الأسلحة الروسية إلى “ثلاثة قواعد جوية تابعة لموسكو في ليبيا” في نهاية العام 2024 كما أظهرت تحليلات لصور فضائية لقواعد براق الشاطئ والجفرة والقادرية مع بدء العناصر الروسية عمليات تجديد واضحة في مرافق هذه القواعد بما فيها ممرات الطائرات([6]).     

بأي حال فإن توقعات تضرر التأثير الروسي في ليبيا في الفترة المقبلة، ومن ثم في إقليم الساحل على امتداده من السودان شرقًا إلى السنغال غربًا، تملك أسسًا قوية. وعلى سبيل المثال أكدت دراسات لمعهد دراسة الحرب Institute for the Study of War(ديسمبر 2024) حتمية هذا التأثير بحال فقدان روسيا سيطرتها على قاعدة طرطوس لاسيما في جهود إعادة الإمداد وتدوير “الفيالق الأفريقية”، ولاسيما إضعاف عمليات روسيا في ليبيا ومجمل “أفريقيا جنوب الصحراء”. لكن استجابة روسيا لهذه التطورات تظل محل اهتمام غربي وأفريقي ملفت مع توقع تكثيف روسيا حضورها في ليبيا والسودان كبديلين عن وجودها في سوريا حتى في ظل غياب اتفاقات رسمية (حتى الان) مع طرابلس والخرطوم وعدم كفاية البنية الأساسية الضرورية لإقامة قواعد روسية بهما “فوريًا”([7]). ويعزز توقع هذه الاستجابة الروسية تضرر صورة موسكو البالغة كحليف يعول عليه (في الحالة السورية)، ومن ثم سعيها لتحرك سريع في ليبيا رغم صعوبة توقع جنوح حفتر الكامل لتحالف مع روسيا لاعتبارات مختلفة أهمها صلاته الوثيقة (وغير المعروف عمقها في واقع الأمر) مع واشنطن، وحسابات وصول دونالد ترامب للبيت البيضاوي وتفادي الصدام معه في هذا التوقيت، ومخاوف حقيقية من عجز روسيا عن إسناد حلفائها في ليبيا بشكل مؤثر.  

روسيا وتحالف دول الساحل: ترهل النفوذ والتأثير؟

بادرت موسكو خلال قمة وزراء خارجية روسيا- أفريقيا في سوشي (نوفمبر 2024) إلى طمأنة دول تحالف الساحل باستمرار التعاون معها، لاسيما مع إقدام دول التحالف (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) على المضي قدمًا في خطوة الانسحاب من الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” دون أي تراجع، وبالتوازي مع توتر متزايد مع فرنسا والولايات المتحدة (وحليفتها أوكرانيا) ضاعف من تداعياته إعلان كل من السنغال وتشد (بصيغ مختلفة) قطع صلات الدفاع المشترك الثنائية مع فرنسا على خلفية عدم احترام الأخيرة للسيادة الوطنية للبلدين، وهي نفس الشكوى التي أعلنتها دول تحالف الساحل الثلاثة قبل أعوام قليلة وقادات إلى الوضع الراهن. وبادرت موسكو بتوجيه رسالة طمأنة لدول التحالف ترقبًا لنتائج سياسية واقتصادية خطيرة تواجه تلك الدول ([8]). كما كررت موسكو الرسالة بعد سقوط نظام بشار الأسد في دمشق، والذي مثل بدوره ضربة موجعة لصورة روسيا في إقليم الساحل وبقية أرجاء القارة الأفريقية. 

وكرر بوتين الرسالة الهادفة إلى طمأنة “أفريقيا” في الأسبوع الأول من ديسمبر الجاري خلال حضوره منتدى الاستثمار الروسي VTB Investment Forum ‘Russia is Calling!’ لكن من زاوية التقارب الروحي والاجتماعي بين روسيا وأفريقيا واحترام دول الأخيرة لمبدأ السيادة الوطنية، وملمحًا إلى وجود رغبة من دول أوروبية مثل ألمانيا (التي حدثه أصدقاء بها حسب تعبيره) في تعميق نفوذها في أفريقيا أسوة بالدور الروسي ([9])، وجاء هذا التلميح ليثير تساؤلات عن إمكانية إقدام روسيا على تنسيق أدوار مع قوى أوروبية في أفريقيا لاسيما بعد احتمالات خروجها من سوريا، وهو سيناريو غير مستبعد عند مقارنته بالتنسيق الروسي- التركي العميق في الحالة الليبية بغض النظر عن المواقف الرسمية المعلنة للجانبين أو عملاءهما في ليبيا. 

ومع ملاحظة تأثير سقوط نظام بشار الأسد وما سيؤدي له من ترهل واضح في شبكة نفوذ روسيا في أفريقيا، والتي قامت بالأساس على دعم نظم الحكم “الاستبدادية” أو العسكرية (كما يتضح من خريطة هذا النفوذ في أفريقيا وربما في خارجها). كما أن تداعي نظام الدعم الروسي لسوريا، والذي كان يقوم على استراتيجية تقديم دعم عسكري مصحوب بتدخل مزمن، ومساعدات اقتصادية، ودعم دبلوماسي كحزمة واحدة، يؤشر على سيناريو قابل للتكرار في تحالف دول الساحل أخذًا في الاعتبار ضخامة الدعم الروسي لسوريا (وفق هذه الحزمة) مقارنة بما تقدمه موسكو لدول التحالف الثلاثة ([10]).

خلاصة

يتوقع أن تكون عواقب سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وانكشاف الوضع الروسي كقوة دولية غير قادرة على “حماية” حلفائها” (بغض النظر عن إمكان تفسير هذا التخاذل في سياق ترتيبات دولية جديدة جاء عدد منها على حساب الأوضاع القائمة في الشرق الأوسط وربما تطال مناطق مثل إقليم الساحل الأفريقي) بالغة التأثير في أوضاع الدول الحليفة لروسيا في أفريقيا. وحسب مراقبين فإن دول تحالف الساحل سوف تسعي للبحث عن “مصادر دعم جديدة” سواء في الغرب أم الصين أم قوى صاعدة أخرى (أو قوى متوسطة مثل تركيا والإمارات والسعودية). لكن مثل هذا التغيير ربما سيقود إلى إعادة تشكيل البيئة الجيوسياسية الأفريقية بشكل عام وخلق توازنات جديدة ستكون تداعياتها أشد وطأة على المجتمعات الأفريقية.  

وتظل هذه التغيرات مرتقبة بقوة رغم إعلان مسئولون في الكرملين (رفضوا الإفصاح عن أسماءهم) في تصريحات لوكالة تاس الروسية (9 ديسمبر الجاري) توصل روسيا “لاتفاق لضمان أصولها العسكرية في سوريا” مع السلطات الجديدة في دمشق ([11])، وعدم وجود دلائل مبكرة (ومعلنة بطبيعة الحال) على خطوات محددة من قبل هذه السلطات لمطالبة روسيا بالرحيل من “قواعدها”. لكن لا يتوقع أن تستمر الأنشطة العسكرية الروسية بين قواعدها في سوريا ونظيرتها في شرقي ليبيا في مستوياتها الحالية، ما يعني توقع شبه حتمي بتراجع روسي ملموس في مناطق التنافس على النفوذ في ليبيا وإقليم الساحل.   


[1]  James Kilner, Russia scrambling to keep hold of key Syria bases as Putin faces loss of gateway to Africa, The Telegraph, December 9, 2024 https://www.msn.com/en-gb/politics/international-relations/russia-scrambling-to-keep-hold-of-key-syria-bases-as-putin-faces-loss-of-gateway-to-africa/ar-AA1vxRqD?ocid=BingNewsSerp

[2] Ibid. 

[3] Russia’s Africa Strategy at Risk After Syria Regime Collapse, Polity, December 11, 2024 https://www.polity.org.za/article/russias-africa-strategy-at-risk-after-syria-regime-collapse-2024-12-11

[4] Tom Kington, Russia funneling weapons through Libyan port, eying gateway to Africa, Defense News, April 19, 2024 https://www.defensenews.com/global/europe/2024/04/19/russia-funneling-weapons-through-libyan-port-eying-gateway-to-africa/

[5] Foreign Ministers of G7 deplore Russia’s “malign activities” in Libya, Libya Observer, November 27, 2024 https://libyaobserver.ly/news/foreign-ministers-g7-deplore-russias-malign-activities-libya

[6] Report says Haftar’s forces need permission from Russia to enter some military bases in Libya, Libya Observer, December 4, 2024 https://libyaobserver.ly/news/report-says-haftars-forces-need-permission-russia-enter-some-military-bases-libya

[7] Loss of military bases in Syria to have serious implications for Russia’s influence in Africa – ISW, Ukrinform, December 9, 2024 https://www.ukrinform.net/rubric-ato/3935826-loss-of-military-bases-in-syria-to-have-serious-implications-for-russias-influence-in-africa-isw.html

[8] Russia guarantees Africa’s security and economic stability, The B & FT Online, December 9, 2024 https://thebftonline.com/2024/12/09/russia-guarantees-africas-security-and-economic-stability/

[9] Africa and Russia close in spirit – Putin, RT, December 5, 2024 https://www.bignewsnetwork.com/news/274821991/africa-and-russia-close-in-spirit—putin

[10]Simantik Dowerah, Why fall of Bashar-al Assad in Syria threatens Russia across the Mediterranean, Africa and beyond, First Post, December 9, 2024 https://www.firstpost.com/world/why-fall-of-bashar-al-assad-in-syria-threatens-russia-across-the-mediterranean-africa-and-beyond-13842833.html

[11] Mike Eckel, How Assad’s Fall Threatens Russia’s Military Influence In Syria — And Across The Region, Radio Free Europe, December 9, 2024 https://www.rferl.org/a/syria-russia-tartus-hmeimim-base-military-withdrawal/33232501.html

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى