الحضور التركي في إقليم الساحل : الدوافع والتحديات
المقدمة
يشهد الساحل الأفريقي تحولات جيوسياسية حادة، إذ إن انسحاب القوات الفرنسية ومن بعدها القوات الأمريكية يمثل نقطة تحول في طبيعة التوازنات التي تدور حولها المنطقة، وهو المتغير الذي بطبيعة الحال أفسح المجال أمام دول أخرى لملء الفراغ واستعراض النفوذ، وفي ظل الاضطراب الذي يسود المشهد الدولي من حيث الصراع بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، انطلقت موسكو على الفور لمغازلة دول الساحل وعرض خدماتها في سياق تبادل الخبرات الأمنية بشأن مواجهة حركات التمرد والجماعات الإرهابية
في ذات السياق اعتمدت تركيا على مقاربة التقارب مع القارة الأفريقية من خلال توسيع العلاقات وزيادة الحضور الدبلوماسي والتجاري والثقافي ،حيث تحتل تركيا المركز الرابع من بين الدول الأكثر تمثيلاً في القارة الأفريقية، بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا وبعد موجة الانقلابات في الساحل التي بدأت عام 2020 من مالي، مروراً وبوركينا فاسو ومؤخراً بالنيجر وتراجع النفوذ الفرنسي في غرب أفريقيا، زادت أنقرة من سعيها عبر قنوات التسليح والتعاون الاقتصادي لتكون شريكاً حاضراً في المنطقة التي تشهد تنافساً من قوى النفوذ والتأثير العالمي.
مشكلة البحث:
في السنوات الأخيرة، زاد الحضور التركي في منطقة الساحل الإفريقي من حيث التعاون الاقتصادي، والاستثمارات، والتعاون العسكري، والتعليم، والثقافة. تثير هذه التحركات تساؤلات حول الدوافع الاستراتيجية لتركيا، وتأثير هذا الحضور على الأوضاع السياسية والاقتصادية في دول الساحل الإفريقي، فضلاً عن تفاعل القوى الدولية الأخرى معه. تكمن مشكلة البحث في فهم أبعاد وأهداف هذا الحضور، وآثاره على علاقات الدول الإفريقية مع تركيا من جهة، ومع القوى الإقليمية والدولية الأخرى من جهة أخرى.
أسئلة البحث:
- ما هي الأهداف الرئيسية لتركيا من تعزيز حضورها في منطقة الساحل الإفريقي؟
- ما هي الأدوات والاستراتيجيات التي تعتمد عليها تركيا لتعزيز حضورها في هذه المنطقة؟
- كيف يؤثر الحضور التركي على الأوضاع السياسية والاقتصادية في دول الساحل الإفريقي؟
- ما هو تأثير الحضور التركي على علاقات دول الساحل الإفريقي مع القوى الدولية الأخرى، مثل فرنسا والولايات المتحدة والصين؟
- كيف تتفاعل القوى الإقليمية والإفريقية مع الحضور التركي، وما هو مدى تأثيره على التوازن الإقليمي؟
- ما هي أبعاد التعاون العسكري والأمني بين تركيا ودول الساحل الإفريقي؟
منهج البحث:
يستخدم الباحث المنهج المتكامل الذي يوفر مجالا واسعا للإحاطة بجوانب موضوع الدراسة كالمنهج التاريخي والوصفي التحليلي.
الانفتاح التركي على القارة الأفريقية
منذ أكثر من عقدين من الزمن، انتهجت تركيا سياساتها التوسعية في القارة السمراء، التي تمتلك نحو 65 % من الموارد العالمية التي لم تُستغَل بعد؛ لذا أصبحت العلاقات مع الدول الإفريقية ضمن الأهداف الرئيسة للسياسة الخارجية التركية، ويعود الاهتمام بتطوير هذه العلاقات إلى عام 2005، حين أصبحت أنقرة عضوًا مراقباً في الاتحاد الإفريقي، وأعلنت في العام نفسه خريطة جديدة عنوانها الانفتاح على أفريقيا. وفي الفترة الواقعة بين عامي 2008 و2023، زار الرئيس التركي 30 دولة إفريقية، ووجه بوصلة الاستثمارات نحو المنطقة، التي تمتلك سوقًا استهلاكية ضخمة، ويقطنها أكثر من 1.3 مليار إنسان، ونتيجة لهذا الاهتمام ارتفع حجم التبادل التجاري بين تركيا وإفريقيا من 3 مليارات دولار سنة 2003 إلى 26 مليار دولار عام 2021. ‘1’
بالتوازي مع العلاقات الاقتصادية، بدأت الدبلوماسية التركية بتطبيق استراتيجية التقارب مع القارة السمراء من خلال توسيع العلاقات، وزيادة الحضور الدبلوماسي، حيث تحتل تركيا المركز الرابع من بين الدول الأكثر تمثيلًا في القارة الإفريقية، بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا، وقفز عدد السفارات التركية في إفريقيا من 12 سفارة عام 2002 إلى 44 سفارة وقنصلية في سنة 2022، كما ارتفعت السفارات والتمثيليات الدبلوماسية الإفريقية المعتمدة في تركيا من 10 سفارات عام 2008، إلى 37 سفارة في 2021. وبعد أن عززت تركيا حضورها الاستثماري والدبلوماسي في المنطقة، سعت إلى مد نفوذها العسكري داخل إفريقيا، وإجراء مناورات مشتركة مع جيوش المنطقة، وأسفر ذلك عن توقيع اتفاقيات أمنية مع عدد كبير من البلدان الإفريقية، مثل كينيا، وإثيوبيا، وأوغندا، وتنزانيا لتدريب قوات الأمن في هذه الدول لمكافحة الجماعات المسلحة وأعمال القرصنة، كما عملت أنقرة على فتح أسواق جديدة للصناعات العسكرية التركية، حيث بلغت صادرات تركيا العسكرية إلى أفريقيا عام 2021 إلى 328 مليون دولار.’2′
قام الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” بجولة أفريقية في الفترة من 20-23 فبراير 2022 شملت جمهورية الكونغو الديمقراطية والسنغال وغينيا بيساو. وجاءت الجولة بعد أن استضافت تركيا في الفترة من 16-18 ديسمبر 2021 “القمة الثالثة للشراكة التركية الأفريقية” بحضور ممثلي 50 دولة أفريقية من بينهم 16 رئيس دولة، وهو عدد يفوق عدد الرؤساء الذين حضروا منتدى التعاون الصيني الأفريقي بالسنغال في نهاية نوفمبر 2021. وتأتي تلك القمة عقب زيارات رسمية قام بها الرئيس التركي أردوغان إلى أنغولا ونيجيريا وتوغو ضمن مساعي أنقرة لتعزيز العلاقات السياسية والاقتصادية مع الدول الأفريقية.’3′
في ظل الاهتمام بتطوير العلاقات التركية الأفريقية زادت أنقرة عدد سفاراتها في أفريقيا من 12 سفارة في عام 2002 إلى 43 سفارة عام 2021 لتصبح رابع أكثر الدول تمثيلاً في القارة السمراء بعد الولايات المتحدة والصين وفرنسا. وحرصت أنقرة على توظيف المساعدات الخارجية باعتبارها أداة جوهرية ضمن أدوات القوة الناعمة؛ فتوسعت أنشطة مؤسسة “تيكا” المسؤولة عن تنظيم المساعدات التركية الخارجية، حيث افتتحت 22 فرعاً لها في الدول الأفريقية. فيما حصل 15 ألف طالب أفريقي خلال الفترة من 1992 إلى 2020 على منح دراسية كاملة من تركيا. وفي ظل النشاط السابق لشبكة “فتح الله غولن” في أفريقيا، فقد توصلت الحكومة التركية لاتفاقات على نقل ملكية هذه المؤسسات إلى “وقف المعارف التركي”، واستجابت 17 دولة أفريقية لهذا الطلب في مقدمتها أثيوبيا والصومال وموريتانيا وتوجو، ويدير الوقف حالياً 175 مدرسة في 26 دولة أفريقية.’4′
أصبحت تركيا لاعباً مهماً في القارة الأفريقية ، بعد أن أصبحت أنقرة شريكاً استراتيجياً للاتحاد الأفريقي، وعضواً غير إقليمي في بنك التنمية الأفريقي. باعتبار أن القارة الأفريقية تمتلك أسواق استهلاكية ضخمة تضم 1.3 مليار إنسان، فقد نمت تجارة تركيا مع أفريقيا من 3 مليارات دولار في أوائل العقد الأول من القرن الـ21 إلى 25.3 مليار دولار في عام 2020. كما بلغ حجم المشاريع التي قامت بها شركات المقاولات التركية 71.1 مليار دولار في عموم القارة الأفريقية، تشمل 19.5 مليار دولار في دول أفريقيا جنوب الصحراء. وأنشأت تركيا مجالس أعمال مشتركة مع 45 دولة أفريقية بينها 40 دولة أفريقية جنوب الصحراء.’5′
تستورد أنقرة نحو 90% من احتياجاتها من النفط والغاز، وبلغت كلفة استيرادها للنفط والغاز 42 مليار دولار سنوياً. وفي ظل امتلاك أفريقيا نحو 10% من الاحتياطي العالمي للبترول، سعت تركيا للحصول على الطاقة من أفريقيا بأسعار تفضيلية، وبالأخص الغاز الطبيعي الذي باتت تركيا المستهلك السابع عالمياً له، بالتزامن مع سعيها لتنويع الإمدادات لتحقيق هدف تقليص الاعتماد المكثف على روسيا وإيران. ومن ثم، أصبحت الجزائر رابع أكبر مصدر للغاز إلى تركيا بمقدار 5.6 مليارات متر مكعب عام 2020 بنسبة 11.6٪ من إجمالي واردات تركيا من الغاز، تليها نيجيريا في الدول الأفريقية ‘6’
تطور العلاقات التجارية والثقافية مع أفريقيا مهّد الطريق لتركيا كي تبني قاعدة لنفوذ استراتيجي في القارة. وإذا كانت العلاقات مع أفريقيا قد بدأت من زاوية اقتصادية بالأساس، فإن تطور الدور التركي الخارجي عموماً ساهم في تبني رؤية تجاه وجود استراتيجي مخطط له في أفريقيا. وكان من اللافت أن خطة الوجود العسكري خارج تركيا التي أقرها الرئيس “أردوغان” في عهد حكومة “أحمد دواد أوغلو” الأولى، شملت مشروع الوجود العسكري في السودان والصومال، وهي دلالة على رؤية متكاملة تضع أفريقيا ضمن رؤية جيوسياسية تركية واسعة، بعد تعزيز الحضور التجاري الاستثماري والثقافي، أصبح الانتقال لمجالات إستراتيجية، مثل الأمن والتسليح، ممكناً ، خاصةً من خلال مكاتب عسكرية تركية منتشرة في القارة يبلغ عددها 37 مكتباً. وفي عام 2021، حققت صادرات الأسلحة التركية إلى أفريقيا أعلى نسبة زيادة في الصادرات العسكرية . ‘7’
تعمل تركيا على تعزيز وجودها في العديد من الدول المطلة على خليج غينيا بغرب القارة الأفريقية. ويلاحظ أنه خلال الأشهر الأخيرة قام الرئيس التركي بجولتين في المنطقة لزيارة عدة دول ، زار أردوغان نيجيريا التي تعد قوة إقليمية في القارة وصاحبة أكبر اقتصاد أفريقي، وتوغو التي تمثل واحدة من أصغر دول القارة. وبالإضافة إلى العلاقات التجارية الثنائية التي بلغ حجمها 2 مليار دولار عام 2020، فقد تركزت مباحثات “أردوغان” في نيجيريا على التعاون الأمني والعسكري، ليوقع الطرفان اتفاقية صناعية دفاعية من شأنها أن تفتح الباب لتصدير الأسلحة التركية، وخاصة الطائرات بدون طيار إلى نيجيريا. وفي “القمة الثالثة للشراكة التركية الأفريقية” بعد نحو شهرين من هذه الزيارة، اتفق الجانبان التركي والنيجيري على زيارة لوفد دفاعي تركي إلى العاصمة أبوجا لتمكينها لمواجهة جماعة بوكو حرام. ‘8’
أما غانا، ثاني أكبر اقتصاد في غرب أفريقيا بعد نيجيريا، فقد أصبحت حالياً سادس أهم بلد مستورد للسلع التركية. وتعمل أنقرة على تأسيس مركز لوجستي في غانا يختص بتوزيع المنتجات التركية في غرب أفريقيا، وذلك بالتوازي مع بناء وقف الشؤون الدينية التركية لمسجد “أمة” الضخم في العاصمة أكرا، والذي يضم مدرسة للأئمة والخطباء، ومركزاً صحياً ، حيث طوّر “أردوغان” كذلك علاقات ودية مع قادة المنطقة، مثل رئيس السينغال “ماكي سال” الذي وصف “أردوغان” خلال جولته في غرب أفريقيا في فبراير/شباط الماضي بـ”صديقي وصديق الأفارقة”. وكان من اللافت تصريح رئيس الكونغو الديمقراطية “فيليكس تشيسكيدي” خلال زيارة “أردوغان” لبلاده في مستهل هذه الجولة، أن تركيا ستقدّم الدعم لبلاده في مكافحة الإرهاب، وستشارك تجاربها وخبراتها في هذا المجال معها، مشيراً إلى أن “الأولوية في التعاون بين البلدين هي للأمن”. وهي دلالة لافتة على تحول علاقات تركيا في القارة من مجال الاقتصاد والتجارة إلى مجالات أكثر إستراتيجية.، حيث تعمل تركيا على الاستثمار في مجالات الطاقة وإدارة الموانئ غنينا كوناكري، وساهمت في بناء قوة تدخل سريع لمكافحة الإرهاب .’9′
تنامي النفوذ التركي في القرن الإفريقي خلال الفترة الأخيرة، من أبرزها ما يلي:’10’
- اتفاقية تعاون دفاعي مع الصومال: وقّعت تركيا والصومال، في العاصمة أنقرة، في فبراير 2024، اتفاقية إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي بين البلدين. وحسب الرئيس الصومالي، حسن شيخ محمود، فإن هذه الاتفاقية تهدف إلى بناء البحرية الصومالية واستغلال الموارد الطبيعية في المياه الصومالية وحمايتها من النشاطات غير القانونية من القراصنة وتهريب المخدرات والأسلحة والإرهاب. وهي اتفاقية تمتد لعشر سنوات، وبعد ذلك من المفترض أن يكون لدى الصومال قواته البحرية الخاصة التي ستتولى هذه المهمة.
- التعاون العسكري مع جيبوتي: وقّعت تركيا، في فبراير الماضي، ثلاث اتفاقيات تعاون مع جيبوتي، اشتملت على التعاون في مجال التدريب العسكري، والتعاون المالي العسكري، وبروتوكول تنفيذ المساعدات النقدية.
- تصدير الطائرات من دون طيار للصومال وإثيوبيا: سعت تركيا لتصدير أسلحتها إلى دول القرن الإفريقي، ومنها الطائرات من دون طيار؛ إذ زودت شركة “بايكار” التركية للطائرات من دون طيار الصومال بعدد من طائراتها من طراز (TB2)؛ مما أدى إلى توسيع هجوم الصومال ضد حركة الشباب الإرهابية. وأفاد عدد من التقارير الدولية بأن القوات الفدرالية الإثيوبية استخدمت طائرات مّسيَّرة تركية في الحرب مع التيجراي. وفي ديسمبر 2023، ظهر رئيس شركة “بايكار” وهو يسلم رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، مجسماً للطائرة، كما ظهرت خلفه طائرة تتطابق شفرات مروحة محركها مع شفرات الطائرة من دون طيار “أكينجي”؛ أحدث الطائرات التركية.
- اتفاقيات للاستثمار في مجال الطاقة: وقّعت تركيا والصومال اتفاقية تعاون في مجال النفط والغاز في مارس 2024، وتشمل استكشاف وتقييم وتطوير وإنتاج النفط في المناطق البرية والبحرية الصومالية. وفي يوليو الماضي، وقّعت أنقرة ومقديشيو اتفاقية لاستكشاف وإنتاج الهيدروكربون، كما تم الاتفاق على إرسال تركيا سفينتها البحثية “أوروتش رئيس” لإجراء دراسات زلزالية في منطقة قبالة الساحل الصومالي. وأعلنت تركيا أنها سترسل سفينة التنقيب “عروج ريس” البالغ طولها 86 متراً لاستكشاف مكامن نفط بحرية تابعة للصومال .
5- الوساطة بين الصومال وإثيوبيا: اضطلعت تركيا بالوساطة بين الصومال وإثيوبيا في ظل الخلافات بينهما، على إثر توقيع الأخيرة اتفاقية مع أرض الصومال تتيح لها إيجاد موطئ قدم على البحر الأحمر. وانتهت الجولة الأولى والثانية من المحادثات الخاصة بهذه الوساطة دون اتفاق، وتتطلع أنقرة لأن تنجح هذه الوساطة خلال الجولة الثالثة من المحادثات .
دوافع الحضور التركي في الساحل
تسعى تركيا جاهدة لتحقيق دور مؤثر في الساحل الافريقي وتبوأ مكانة رئيسية في الأحداث التي تحدث ، وذلك في اطار نظرية “العمق الاستراتيجي” التي تعتبر الدافع الرئيسي للسياسة التركية منذ عام2002، بعد تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في البلاد ، وتركز تركيا جهودها على استغلال علاقاتها التاريخية مع دول الساحل وعلى التبادلات التجارية المهمة معها. في حين كان دور تركيا في العديد من الدول محصوراً بالأبعاد التنموية والسياسية، فإن هذا الدور في الساحل الأفريقي ، شمل أيضاً الجانب الثقافي والتاريخي أو ما يعرف “بالقوة الناعمة”. ومع ذلك، فقد لاحظ البعض أن تركيا قد بدأت مؤخراً في استخدام أدوات جديدة في سياستها الخارجية تجاه دول الساحل ، مع التركيز على عناصر القوة الصلبة وقدراتها العسكرية، خاصة بعد تحقيقها اختراقات عديدة في كل من مالي والنيجر . ’11’
ترتبط الاهتمامات التركية في الساحل الإفريقي بمجموعة من الدوافع، من بينها البحث عن شركاء جدد، خاصة بعد تكرار المشاكل مع حلفائها التقليديين مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك، تسعى تركيا إلى تعزيز المكاسب الاقتصادية، ودفع عجلة المبادلات التجارية، مما دفعها إلى تعميق علاقاتها التجارية مع دول الساحل وتوسيع نطاقها لتشمل دوائر اقتصادية جديدة في القارة الأفريقية. وتسعى تركيا لتكوين شراكات قوية مع الدول ذات الاقتصاديات الناشئة والمواقع الجيوسياسية البارزة، ويعتبر تأمين الموارد الخام من العوامل الرئيسية وراء الارتباط التركي بدول الساحل الإفريقي ، تتبع تركيا في علاقاتها مع دول الساحل الأفريقي ، سياسة تجمع بين استراتيجية فائز فائز لكافة الأطراف، وتقديم مساعدات إنسانية وتنموية. ’12’ لذا يمكن القول بأن هناك ثلاث عوامل رئيسية تمثل الدوافع التركية للحضور في الساحل الإفريقي:
أولا : الموارد الطبيعية الأولية، بشكل عام تعتبر أفريقيا في هذا السياق منجماً ضخماً ينتج حوالي ٨٠٪ من البلاتين في العالم، وأكثر من40% من الألماس في العالم ، وتعد صناعة التعدين من الصناعات الأساسية في دولة مالي”؛ حيث تعتمد على استخراج الذهب والفوسفات والنحاس والألماس، أما النيجر فتتميز بإنتاج اليورانيوم، الفحم الحديد الفوسفات الذهب، والقصدير حيث يمثل اليورانيوم الخام المرتبة الأولى في قائمة الصادرات؛ حيث يوجد بكميات كبيرة في ثلاث مناطق من النيجر، ويقدر الاحتياطي منه بحوالي ۲۸۰ ألف طن سنوياً تستغله شركة سوسيل الفرنسية ، كما تنتج موريتانيا خام الحديد الذي يقدر احتياطه بنحو ۱۰۰ مليون طن، أضف إلى ذلك خام النحاس عالي الجودة الذي يقدر احتياطه بـ ۳.۲۷ ملیون طن.’12’
ثانياً: التعاون التجاري والاقتصادي ، تُركز تركيا على تعزيز علاقتها الاقتصادية مع دول الساحل الإفريقي وفتح أسواق جديدة في الساحل الإفريقي ، بعد تراجع مكانتها الإقليمية، وتكبدها لخسائر كبيرة في مجموعة من الأسواق الدولية. وبناءً على ذلك، وضعت خطتها للتعاون الاقتصادي والتجاري تحت اسم “استراتيجية تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع إفريقيا ، حيث رفعت حجم التبادل التجاري بينها وبين الدول الإفريقية من 5.4 مليارات دولار في سنة 2003، إلى 40.7 مليار دولار نهاية عام 2024. على صعيد الاستثمارات، انتهجت الحكومة التركية نهجاً محفزاً لجذب الشركات التركية الكبيرة للاستثمار في الساحل الإفريقي، خصوصاً في بعض القطاعات الرئيسية المهمة مثل التعدين، المصارف والاتصالات وتهدف هذه الاستثمارات إلى خلق فرص عمل جديدة وتعزيز البنية التحتية، وتتركز هذه الاستثمارات بشكل رئيسي في من النيجر ومالي وتشاد . ’13’
ثالثاً: التعاون الأمني والعسكري ،تهدف تركيا إلى فتح أسواق جديدة أمام صناعتها العسكرية في الساحل الإفريقي ، إذ تمثل سوقاً جيدة تستهدفها شركات الصناعات الدفاعية التركية مؤخراً. كما وطدت تواجدها العسكري في الساحل الإفريقي إثر انخراطها في شراكات أمنية مع كل من باماكو ونيامي ، فضلاً عن تقديمها العون التقني والعسكري في مواجهات عمليات الجريمة ومكافحة الإرهاب. وفي هذا الإطار، تستهدف تركيا الساحل الإفريقي، لأهميته الجيوسياسية ،وسوقاً لبيع الأسلحة التي تقوم بإنتاجها، وتعزيز تعاونها العسكري مع دول الساحل . ’14’
التحديات التي تواجه الحضور التركي في الساحل
رغم الجهود التركية للتوسع ، فإن المنافسة بين القوى العظمى والإقليمية على النفوذ في دول الساحل الأفريقي والتحديات الأمنية في المنطقة فإن تركيا ليست القوة الوحيدة النشطة في الساحل الإفريقي، فهناك القوى الاستعمارية فرنسا التي كانت حاضرة عسكرياً من خلال عملية برخان والقواعد العسكرية ، بالإضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية من خلال قواعدها في النيجر ، فضلاً عن الشريك الروسي صاحب النفوذ الأقوى في الوقت الحالي في كل من مالي وبوركينا فاسو والنيجر. يُثير تنامي الدور التركي وتوسعها العسكري في الساحل الأفريقي عبر تدخلها في كل من النيجر ومالي مخاوف بعض بلدان المنطقة، خاصةً الجزائر ، وذلك نظراً للأوضاع الأمنية غير المستقرة في مالي ، والذي ساهمت فيه تركيا من خلال دعمها لحكومة المجلس العسكري بالسلاح والأفراد لقتال الطوارق، مما يهدد الأمن والاستقرار الإقليمي . ’15’يمكن الإشارة إلى عدد من التحديات التي تواجه الحضور التركي في الساحل الأفريقي:
- في ظل التنافس الدولي على الموارد الخام، باتت دول الساحل الإفريقي بمواردها الهائلة، مَحَطّ أطماع القوى الإقليمية والدولية ، يمكن تأكيد ذلك من خلال الاهتمام المتزايد بالساحل الإفريقي التداعي المحموم على ثرواتها ، سواء عن طريق التواجد العسكري المتمثل في القواعد العسكرية أو الشراكات الأمنية والدفاعية ، ولا شك في أن هذا الازدحام يجعل حصول أي فاعل على مكاسب ما، خَصماً من مكاسب الأطراف الاخرى ، لذا أزعج الصعود تركي الوافد الجديد، الكثير من القوى التقليدية، المتمثلة في القوى الاستعمارية فرنسا ، والقوى العظمي الأخرى ، كروسيا، والصين، وإيران ، تنامي النفوذ التركي في الساحل الإفريقي، بات يمثل خَصماً للنفوذ الفرنسي بعد أن خسرت فرنسا نفوذها في الساحل الإفريقي لاسيما في مالي وبوركينا فاسو والنيجر ، بعد أن تحول من تعاون ثقافي واقتصادي محدود، إلى دعم سياسي وتعاون عسكري وأمني غير محدود، ولا تتوقف التحدِّيات عند منافسة القوى الدولية، بل تتعداها إلى مزاحمة القوى الإقليمية الطامحة إلى حجز موطئ قدم في الساحل الإفريقي، مثل ايران والإمارات.’16’
- الحديث عن استقرار العلاقات التركية مع دول الساحل الإفريقي، مرتبط بالاستقرار الداخلي ، البيئة الداخلية ، تتسم بعدم الاستقرار الناشئ عن عدة أسباب، في مقدمتها الاضطرابات السياسية المستمرة، والتغييرات غير الدستورية للسلطة عن طريق الانقلابات العسكرية، والصراعات المسلحة ، كما هو الحال في مالي بين الحكومة وجبهة تحرير الازواد ، فإن التعاطي مع هذه الأوضاع ، يتطلب فهماً عميقاً ودقيقاً لبِنْية المجتمعات الإفريقية، وديناميات نُظُمها السياسية، وسيكولوجية النُّخَب والجماهير وتوجُّهاتها، في كل دولة على حِدَة، مع مراعاة التغيرات التي تطرأ على ذلك كله من حين لآخر، ومن هنا يمكن القول بأن سياقات الداخل الإفريقي، تُعَدّ عوائق لا يُستهان بها، في مواجهة تعزيز النفوذ التركي في إفريقيا .’17’
آفاق الحضور التركي في الساحل
تعي أنقرة أن تعزيز حضورها في الجوانب الاقتصادية والتجارية والأمنية والثقافية،في منطقة الساحل الإفريقي على حساب النفوذ الفرنسي والأمريكي ، يساهم في بناء فرص جديدة للتعاون بين أنقرة وقوى أوروبية أخرى مثل إيطاليا وإسبانيا، التي تعاني من تداعيات موجات اللجوء القادمة من هذه الدول. لكن الأهم أن التغلغل التركي في الساحل ولا سيما في قطاع الطاقة يمكن أن يمثل مدخلاً لتعزيز العلاقة مع موسكو ، إذ أن حضور أنقرة في هذه المشاريع قد يقنع الرئيس بوتين بأهمية توظيف هذه العوامل في فرض التوازن في مواجهة النفوذ الأمريكي الفرنسي في دول الساحل الإفريقي ، وهو أمر من شأنه أن يفتح أفاق جديدة للعلاقة بين أنقرة وموسكو .’18’
زادت تركيا من تحركاتها في منطقة الساحل بعد موجة الانقلابات التي شهدتها عدد من دول الساحل الإفريقي منذ العام 2020، والتي تسبّبت في تراجع النفوذ الفرنسي والغربي في الساحل ،تكثيف تركيا حضورها في منطقة الساحل عبر السلاح والتعاون الاقتصادي، يجعلها شريكاً موثوقًا في المنطقة التي تشهد سباق نفوذ بين القوى العظمى، حيث أسفر الاستقطاب الذي تشهده منطقة الساحل عن تشكيل تكتّل ، وهو تحالف دول الساحل الذي يتكوّن من بوركينا فاسو ومالي والنيجر، وكلها حليفة لتركيا. وفي السنوات الأخيرة عزّزت الشركات التركية حضورها في النيجر، فقد فازت بعدد من العقود، بينها عقد بقيمة 152 مليون يورو لتحديث مطار نيامي، وعقود أخرى بقيمة 50 مليون يورو لإقامة فندق فخم، و38 مليون يورو للمقرّ الجديد لوزارة المالية النيجرية في قلب العاصمة، كما أنشأت تركيا عام 2019 مستشفى بقيمة 100 مليون يورو في مارادي، ثالث أكبر مدن البلاد والمركز الإداري لمنطقة مرادي .’19’
وقّعت تركيا اتفاقية عسكرية مع نيامي عام 2021 بعد جولة وزير الخارجية حينها مولود جاويش أوغلو. ووفقاً للصحافة المحلية في النيجر، فإن أنقرة تسعى لإقامة قاعدة عسكرية تركية في منطقة أغاديس شمال النيجر ذات الموقع الجغرافي الإستراتيجي، حيث تقع على تماس مع تشاد وليبيا والجزائر.كما يعتبر إقليم أغاديس مركزاً لمناجم اليورانيوم التي تسعى السلطات في نيامي للسيطرة عليه من هجمات المتمردين والحركات المسلّحة. بالتوازي مع ذلك، تقدم تركيا نفسها كقوة صاعدة، وفي ظل نظام عالمي أكثر عدلا ً، وفي هذا الصدد يقول الأمين العام لمنطقة التجارة الحرة للقارة الأفريقية “وامكيلي مين”: “تأتي تركيا بلا أعباء استعمارية على الإطلاق.. هذه ميزة”. هنا، تراهن تركيا على توظيف صورة باريس الذهنية كدولة استعمارية في الوعي الجمعي الأفريقي لترسيخ وجودها في دول الساحل الإفريقي، و باعتبار ذلك يمثل فرصة لتعظيم سياستها، وإعادة صياغة خارطة التحالفات مع خصوم تركيا في مناطق نفوذها المختلفة . ’20’
الخاتمة
في ظل حالة عدم اليقين التي يمر بها النظام الدولي في الوقت الراهن، من المرجح أن يشتد التنافس على ثروات دول الساحل الإفريقي، ويشتد الصراع بين القوى صاحبة النفوذ التقليدي، مثل فرنسا، والولايات المتحدة، وبين القوى الصاعدة ، كالصين، وروسيا، وتركيا، وفي إطار تفاقم عدم الاستقرار السياسي والأمني، الذي تعانيه دول الساحل الإفريقي، ومن بينها النيجر، مالي وبوركينافاسو، سيتزايد الطلب على خدمات الدفاع والأمن، وما يرتبط بها من متطلبات، كالأسلحة، والمعدات، واللوجستيات، والاستخبارات؛ وهو ما قد يعطي الفرصة الذهبية للتوغل التركي في المنطقة، حيث ترى أنقرة نفسها مؤهلة أكثر من غيرها بحكم عوامل دينية وتاريخية، فضلاً عن الحضور الإنساني العميق من خلال المؤسسات التركية الإغاثية والتنموية.
المصادر والمراجع
1- نيفين حليم: التنافس الدولي لكسب النفوذ في إفريقيا، في: صلاح سالم زرنوقة (مشرف)، العرب وإفريقيا فيما بعد الحرب الباردة، جامعة القاهرة، مركز دراسات وبحوث الدول النامية، قضايا التنمية، عدد 18، 2000م. ص 52.
2- حمدي عبد الرحمن: السياسة الأمريكية تجاه إفريقيا من العزلة إلى الشراكة، السياسة الدولية، العدد 144، يناير 2001م، ص (192 – 193).
3- حمدي عبد الرحمن: السودان ومستقبل التوازن الإقليمي في القرن الإفريقي، السياسة الدولية، العدد 147، يناير 2001م، ص (111 – 113).
4– إجلال رأفت: السياسة الفرنسية في إفريقيا جنوب الصحراء، السياسة الدولية، العدد 145، يوليو 2001م، ص (8 – 23).
5– أحمد ثابت: العولمة ومخاطر المعايير المفروضة: التوجهات الأمريكية إزاء السودان، في حمدي عبد الرحمن (محرر)، إفريقيا والعولمة، القاهرة: برنامج الدراسات المصرية الإفريقية بجامعة القاهرة، 2004م.ص 95.
6– هاني رسلان: أبعاد التغير في السياسة الأمريكية تجاه السودان، السياسة الدولية، العدد 155،يوليو 2002,ص 96-123.
7- كرم سعيد، “دوافع وأدوات الدور التركي في إفريقيا”، السياسة الدولية، العدد 156، يونيو 2003، ص217.
8- المصدر نفسه ، ص 218-225.
9- كرم سعيد، “دوافع وأدوات الدور التركي في إفريقيا”، مجلة السياسة الدولية، عدد212، القاهرة، أبريل2018، ص216.
10- أماني سليمان، “الاستجابة الأوروبية للاجئين من منظور الأمن الإنساني”، اتجاهات نظرية، مجلة السياسة الدولية، مؤسسة الأهرام، القاهرة، عدد 205، المجلد 51، يناير 2016، ص34.
11- المصدر نفسه ، ص 39.
12- أحمد السكري، “تعقيدات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي”، مجلة السياسة الدولية، العدد187، القاهرة، يناير2012، ص ص158-162.
13 – المصدر نفسه ، 164 .
14- أحمد السكري، “تعقيدات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي”، مجلة السياسة الدولية، العدد187، القاهرة، يناير2012، ص ص158-162.
15- عبد القادر بوالروايح، “الأهمية الإستراتيجية لدول منطقة شمال إفريقيا في مبادرة الحزام والطريق -الجزائر نموذجا”، مجلة الباحث للدراسات الأكاديمية، العدد2، المجلد10، الجزائر، يونيو2023، ص107.
16- المصدر نفسه ، ص 109.
17- جمال مظلوم، “السياسة التركية في المنطقة العربية العالم”، مجلة السياسة الدولية، العدد 219، القاهرة، يناير2020، ص112.
18- المصدر نفسه ، ص115.
19- أماني السروجي، التواجد العسكري التركي في أفريقيا، مركز شاف للدراسات المستقبلية، 28 مايو 2024. https://bit.ly/3R4e4sK
20- تقى النجار، مشهد متشابك: الإرهاب في القرن الأفريقي، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجيه، 20 يونيو 2024. https://ecss.com.eg/46326