شرق أفريقيا في دائرة الاهتمام السعودي “الاستثمار في الموانئ كأداة للنفوذ”

المقدمة
منذ بداية العقد الماضي، اتخذت المملكة العربية السعودية خطوات استراتيجية واسعة لتعزيز نفوذها الاقتصادي والجيوسياسي في شرق إفريقيا، وقد أصبح تطوير الموانئ في جيبوتي وتنزانيا حجر الزاوية لهذه الاستراتيجية. تستهدف المملكة من خلال هذه الاستثمارات تأمين خطوط التجارة العالمية، دعم أمن الملاحة في مضيق باب المندب، ومواجهة تأثير القوى الإقليمية مثل الإمارات وتركيا وقطر. هذا المقال التحليلي سيستعرض بالتفصيل الجوانب الجيوسياسية والاقتصادية في استراتيجية السعودية، مع تدقيق في التفاصيل الفنية والاستثمارية للموانئ التي تُدار أو تُمتلك من قبل السعودية.
السياق الجيوسياسي والاقتصادي
شهدت القارة الإفريقية في السنوات الأخيرة تنافساً حاداً على الموانئ البحرية، إذ تُعدُّ هذه النقاط الرئيسية عناصر حيوية في الربط بين الممرات التجارية العالمية، خاصة عبر مضيق باب المندب الذي يُعَدُّ حلقة وصل استراتيجية تربط البحر الأحمر بالمحيط الهندي.
ومن هذا المنطلق، تسعى السعودية لتعزيز وجودها البحري عبر استثمارات ضخمة في موانئ جيبوتي وتنزانيا؛ إذ تُعتبر السيطرة على هذه الموانئ وسيلة لضمان تدفق الصادرات والواردات الحيوية، وتأمين خطوط الإمداد للطاقة والسلع الأساسية. كما تُعَدُّ هذه الاستثمارات ركيزة أساسية لدعم مبادرات رؤية 2030 بهدف تنويع الاقتصاد السعودي وزيادة مساهمة قطاع النقل والخدمات اللوجستية في الناتج المحلي الإجمالي إلى 10% (عوضاً عن 6% حالياً [1]
استراتيجية السعودية في شرق إفريقيا “الدوافع والأهداف”
تتجلى الدوافع الرئيسية لاستراتيجية السعودية في:
- تحقيق النفوذ السياسي والاقتصادي في المنطقة.
- تأمين طرق التجارة العالمية عبر تطوير البنى التحتية للموانئ.
- مواجهة المنافسة الإقليمية، سواء كانت الإماراتية أو التركية أو القطرية، عبر خلق بدائل استراتيجية لتأمين الملاحة البحرية [2]
كما تهدف السعودية إلى دعم التحالفات الإقليمية وتأمين أحجام التجارة العالمية من خلال استثمارات لوجستية، ما يساهم في حماية أمن خطوط النفط والتجارة البحرية الأساسية.
تعزيز السيطرة العسكرية واللوجستية
تتضمن استراتيجية السعودية في جيبوتي وتنزانيا أيضاً تعزيز وجودها الأمني واللوجستي لضمان تأمين المرور البحري. تسعى المملكة لبناء تحالفات إقليمية تعزز من وجودها الاستراتيجي في هذه المناطق وقدرتها على السيطرة على المنافذ البحرية، بما يتيح لها الاحتفاظ بنفوذ قوي في مواجهة المنافسين الإقليميين.
السيطرة السعودية في جيبوتي
تشمل الاستثمارات السعودية في جيبوتي عدة موانئ أساسية:
- ميناء دوراله متعدد الاستخدامات: يُعدُّ الميناء السعودي الرئيسي في جيبوتي، وقد بلغ حجم الاستثمار في إنشاءه 590 مليون دولار، مع بدء التشغيل في مايو 2017 يتميز الميناء بقدرته على استيعاب سفن تصل إلى 100,000 طن، ويُعتبر محورًا هامًا في إعادة توزيع النفوذ البحري في المنطقة.
- ميناء دوراليه للحاويات: حيث ساهم استحواذ السعودية على عمليات تشغيله في تعزيز الأداء ودعم سعة المناولة التي تبلغ 1.6 مليون حاوية سنويًا.
- ميناء دميرجوج النفطي: يُستخدم في نقل المواد النفطية وهو جزء من الرؤية الاستراتيجية لتنويع البنية التحتية البحرية.
وتعد إحدى الخطوات الكبرى في الاستراتيجية السعودية في جيبوتي كانت توقيع عقد لإنشاء مدينة لوجستية سعودية على مساحة 120 ألف متر مربع، بعقد يمتد لـ 92 سنة [3] توفر المدينة اللوجستية وصولاً سهلًا إلى الأسواق الإفريقية وتعتبر نقطة انطلاق استراتيجية لعمليات التصدير والاستيراد.
حجم التجارة مع جيبوتي وفقاً لبيانات موقع DataSaudi:
- صادرات السعودية إلى جيبوتي في أكتوبر 2024 بلغت 610.9 مليون ريال سعودي، مما يمثل نسبة مقدارها 0.7% من إجمالي الصادرات في ذلك الشهر.
- فيما بلغت واردات السعودية من جيبوتي 35.8 مليون ريال سعودي، وهو رقم يعكس تركزًا أكبر على التصدير السعودي إلى جيبوتي.
السيطرة السعودية في تنزانيا: ميناء باجامويو كمحور استراتيجي
يأتي استحواذ السعودية على ميناء باجامويو في تنزانيا ضمن إطار مشروع بوابة الشرق، الذي يُعتبر أحد أهم المشاريع الحيوية في منطقة شرق إفريقيا، حيث أعلنت الشركة السعودية الأفريقية للاستثمار والتنمية(SADC) عن استحواذها على ميناء باجامويو، مما يعكس تركيز المملكة على الهيمنة اللوجستية والاقتصادية في المنطقة. وجاء الاتفاق ضمن مشروع “بوابة الشرق” الذي يهدف إلى ربط الأسواق الإفريقية بالأسواق العالمية من خلال تطوير البنية التحتية البحرية واللوجستية.
تفاصيل الاتفاق ونسبة السيطرة
بالرغم من أن الحكومة التنزانية نفت بشكل قاطع أي استحواذ أجنبي على ميناء باغامويو إلا أن مصادر سعودية رسمية أكدت عملية الاستحواذ وتحديد الجدول الزمني لعملية الاستحواذ. ومع ذلك فإن تقارير السيطرة على الميناء تشير الى اختلاف حول طبيعة السيطرة. إلا أن الجانب السعودي يؤكد السيطرة الكاملة بنسبة 100% لنشاط شركة SADC على ميناء باجامويو [4].
وحسب ما ذكره رئيس مجلس إدارة شركة السعودية الافريقية للاستثمار والتنمية محمد آل دليم، أنه من المتوقع الانتهاء من الإجراءات التعاقدية والبدء في إنشاء ميناء باجامويو، خلال شهر أكتوبر من العام الجاري 2025، بعد إنهاء جميع الصيغ والاجراءات القانونية بين الجانبين والتوقيع النهائي على إنشاء المشروع. [5]
الأهداف الاقتصادية والاستثمارية
يبلغ حجم الاستثمارات المرتبطة بمشروع بوابة الشرق في تنزانيا حوالي 10 مليارات دولار، تشمل تطوير البنية التحتية والتجهيزات اللوجستية اللازمة وذلك لتحقيق معالجة 5 ملايين حاوية سنويًا خلال المرحلة الأولى (بحلول 2026) بقيمة تجارية تصل إلى 12 مليار دولار . وكذلك عند اكتمال المشروع، يُتوقع أن يصل حجم التبادل التجاري عبر الميناء إلى 20 مليون حاوية سنويًا بحلول عام 2045 [6]
الأهداف الجيوسياسية والاقتصادية لاستراتيجية الموانئ تعزيز المنافسة الإقليمية
تلعب السيطرة على الموانئ دورًا محوريًا في المنافسة مع كل من:
- الإمارات: حيث تسعى الإمارات لتعزيز نفوذها عبر موانئ مثل دبي وميناء جبل علي.
- تركيا: التي تستثمر في تطوير بنية تحتية بديلة في الصومال وميراثها التاريخي في المنطقة.
- قطر: التي تحاول من خلال استثماراتها في موزمبيق ومناطق أخرى تخفيف الاعتماد على الموانئ التقليدية.
تُبرز بعض التقارير أن استحواذ السعودية على ميناء دوراله في جيبوتي وحصولها على ميناء باجامويو في تنزانيا يشكلان خطوات استراتيجية لتقليل النفوذ الإماراتي والقطري، فضلاً عن مواجهة النفوذ التركي في الصومال. ومن خلال استثماراتها في جيبوتي وتنزانيا، تُعزز السعودية بنيتها التحتية البحرية وتطوير تقنيات المراقبة والذكاء الاصطناعي لضمان أمن الملاحة في باب المندب، ما يقلل من الاعتماد على الموانئ الإقليمية الأخرى ويُحافظ على تدفق التجارة البحرية. كما أنه من خلال المشروع الاستراتيجي “بوابة الشرق”، تُسهم السعودية في تأمين خط إنتاج النفط والسلع الحيوية عبر تطوير الموانئ والتجهيزات الأمنية التي تُقلل من المخاطر الناجمة عن النزاعات البحرية والهجمات، وتُضَع خارطة طريق لضمان استمرارية تدفق الطاقة
الإحصائيات والأثر الاقتصادي
بيانات التجارة بين السعودية وجهات شرق إفريقيا
يمكن تلخيص بعض المؤشرات الرئيسية فيما يلي:
الطرف/المنطقة | حجم التجارة (بالريال السعودي / بالدولار الأمريكي) | المصدر |
السعودية – جيبوتي | صادرات: 610.9 مليون ريال (أكتوبر 2024) واردات: 35.8 مليون ريال | DataSaudi |
ميناء دوراله (جيبوتي) | استثمار: 590 مليون دولار | DPFZA |
مشروع بوابة الشرق (تنزانيا) | قيمة الاستثمار: 10 مليارات دولار حجم التبادل المتوقع بحلول 2026: 5 ملايين حاوية | أرقام |
السعودية – كينيا | صادرات: 1.02 مليار دولار (2023) واردات: 148 مليون دولار | OEC |
مساهمة الموانئ في الاقتصاد السعودي
وفقاً لتقارير الهيئة:
- تمر الموانئ السعودية بما يقارب 13% من حجم التجارة العالمية.
- تُساهم في مرور 70% من واردات المملكة و95% من صادراتها.
- يُستهدف رفع مساهمة قطاع النقل والخدمات اللوجستية من 6% إلى 10% من الناتج المحلي الإجمالي
الخاتمة
تُعدُّ استراتيجية السعودية في شرق إفريقيا محوراً أساسياً لتعزيز النفوذ الاقتصادي والجيوسياسي للمملكة، حيث تُعتبر السيطرة على موانئ جيبوتي وتنزانيا خطوة استراتيجية ذكية تؤمن حماية خطوط التجارة، وتأمين ممرات التجارة البحرية الحيوية مثل باب المندب. من خلال استثمارات ضخمة مثل ميناء دوراله المتعدد الاستخدامات في جيبوتي والصفقة الاستراتيجية لميناء باجامويو في تنزانيا ضمن مشروع “بوابة الشرق”، تضع السعودية أسساً قوية لتعزيز شراكاتها الاقتصادية مع دول المنطقة وتحقيق أهداف رؤية 2030 فيما يتعلق بتنويع الاقتصاد وتعزيز الأمن البحري.
تعكس هذه الاستثمارات الارتباط الوثيق بين الأهداف الجيوسياسية والاقتصادية؛ فهي لا تُعزز فقط موقع المملكة كمحرك للتنمية في إفريقيا، بل تُسهم أيضاً في مواجهة النفوذ الإقليمي للدول المنافسة مثل الإمارات وتركيا وقطر. وبفضل هذه الخطوات، من المتوقع أن تستمر السعودية في زيادة تأثيرها في ممرات التجارة العالمية، مما سيوفر دعماً أساسياً لاستدامة نمو الاقتصاد الوطني وتعزيز الاستقرار الإقليمي.
من خلال هذا التحليل، يتبين أن الاستثمار في الموانئ بمثابة ركيزة استراتيجية متكاملة تُجمع بين الأهداف الأمنية والاقتصادية، مما يجعل المسار الذي تسلكه السعودية في شرق إفريقيا نموذجاً يحتذى به في مواجهة التحديات الإقليمية وغرس القوة الاستراتيجية على مستوى عالمي.
المراجع
[1] الموانئ السعودية بوابة عالمية للتجارة والتنمية، 11 مايو 2022. الدخول 27 فبراير 2025 . الموانئ السعودية بوابة عالمية للتجارة والتنمية – الاتحاد للأخبار
- [2] التحركات السعودية في أفريقيا: المُحدِّدات والأدوات، أغسطس 30, 2023. الدخول 27 فبراير 2025. التحركات السعودية في أفريقيا: المُحدِّدات والأدوات – مركز شاف لتحليل الأزمات والدراسات المستقبلية
[3] مدينة لوجستية سعودية في ميناء جيبوتي.. ماذا تريد المملكة؟ 07 يونيو 2024. الدخول 27 فبراير 2025. مدينة لوجستية سعودية في ميناء جيبوتي.. ماذا تريد المملكة؟ | الحرة
[4] السعودية تستحوذ على ميناء باجامويو بتنزانيا 2025/02/13. الدخول 28 فبراير 2025. السعودية تستحوذ على ميناء باجامويو بتنزانيا
[5] بدء إنشاء ميناء باجامويو التنزاني أكتوبر المقبل واتفاقية سعودية لتسويق الفرص 18 فبراير 2025. الدخول 1 مارس2025. https://www.aleqt.com/2025/02/18/article_2757299.html
[6][6] Saudi Arabia acquires Bagamoyo Port in Tanzania as part of the “East Gate” project Feb 13 2025. Access 28 feb. 2025. Saudi Arabia acquires Bagamoyo Port in Tanzania as part of the “East Gate” project | The Guardian