الأمنالإرهابالاستخباراتالحركات المسلحةتقدير المواقفصنع السلام

التحديات الأمنية والسياسية في مالي: قراءة في الأحداث الأخيرة

مقدم

تشهد دولة مالي، التي تعاني من عدم الاستقرار المزمن منذ عام 2012، فترة حرجة من الاضطرابات السياسية والأمنية والاقتصادية الكبيرة. منذ بداية العقد الماضي، شهدت البلاد سلسلة من الاضطرابات السياسية وتزايد انعدام الأمن الذي تغذيه الجماعات المسلحة الجهادية، والتوترات الداخلية التي تفاقمت بسبب فشل اتفاقيات السلام مع الحركات الانفصالية في الشمال. وتوجه البلاد أيضاً بيئة إنسانية مثيرة للقلق، وتحديات جيوسياسية معقدة تتجاوز بكثير الإطار الوطني.

بعد ثلاث انقلابات عسكرية خلال عقد زمني واحد، تلاشت آمال الإصلاح والسلام تحت وطأة ذكريات ماضٍ مليء بالتوتر، الذي شهد انتفاضات محلية وتدخلات عسكرية دولية. والأكثر قلقاً هو الازدياد الملحوظ في نشاط الجماعات المسلحة الجهادية، مما يزيد من تعقيد المشهد الأمني في البلاد.

وبينما تبحر البلاد في محيط من عدم اليقين، تتعاظم الحاجة الملحة لتحقيق عودة إلى حكم مدني وديمقراطي. ومع ذلك، تشكل ظاهرة تركيز السلطة في يد الجيش عقبة رئيسية، مما يضعف ثقة الماليين في مؤسساتهم السياسية. وتطرح هذه التحديات أسئلة جوهرية حول المستقبل السياسي والأمني والإنساني للبلاد، وأيضاً عن دورها في السياق الإقليمي الأوسع في غرب إفريقيا.

يهدف هذا المقال إلى تحليل التداعيات المترتبة على هذه التطورات سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، في محاولة لتقديم رؤية شاملة حول التحديات التي تواجه البلاد. من خلال دراسة الأحداث الأخيرة وجذورها العميقة، سنستكشف إمكانية قدرة مالي على تحقيق استقرار دائم وضمان إطار ديمقراطي سليم وشامل، في ظل بيئة تتسم بالتقلب المستمر.

  1. السياق السياسي والتاريخي:

تتمتع مالي بتاريخ طويل ومعقد من الصراعات، حيث شهدت البلاد موجات من الاضطرابات السياسية والعسكرية منذ العقد السادس من القرن الماضي. تتجلى بداية هذه الصراعات في حركة تمرد الطوارق عام 1963، تلاها انقلاب عسكري عام 1968 أطاح بأول رئيس للجمهورية، بعد أقل من ثماني سنوات من تحقيق الاستقلال. ومنذ ذلك الحين، استمرت الأزمات السياسية تتوالى على مالي. 

تفجر الأحداث في 2012 

وقد تفاقمت حالة عدم الاستقرار الحالية في البلاد بشكل خاص منذ عام 2012، عندما وقعت المناطق الشمالية تحت سيطرة تحالف من الجماعات الانفصالية والجهادية المسلحة.

في 17 يناير 2012، اندلع تمرد جديد لحركات الطوارق – الخامس منذ عام 1963 – وذلك بعد انهيار النظام الليبي وعودة مرتزقة الطوارق، الذين شاركوا في القتال إلى جانب معمر القذافي، محملين بترسانات عسكرية كبيرة. أسس هؤلاء المقاتلون حركة جديدة تُعرف بالحركة الوطنية لتحرير أزواد، مستهدفين معسكرات الجيش المالي في الشمال. 

وسرعان ما أعقب هذا التصعيد الجديد انقلابا عسكريا في باماكو – الثالث منذ عام 1968 – أحدث هذا الانقلاب الذي أطيح خلاله بالرئيس أمادو توماني توري، آثاره العميقة على الوضع الأمني والسياسي في البلاد. كان هذا الانقلاب نتيجة للاستياء المتزايد في صفوف الجيش بسبب عدم كفاءة الحكومة في معالجة الأزمات، لاسيما تمرد الطوارق الذي ساد شمال البلاد. وقد ساهمت هذه الأحداث في تعزيز نشاط الجماعات المسلحة، بما في ذلك الجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيم القاعدة، التي تمكنت من السيطرة على أجزاء كبيرة من الشمال.

عانت المناطق التي خضعت للاحتلال من أعمال عنف مروعة، شملت الاغتصاب والخطف والقتل، وبتر الأطراف، فضلاً عن قيام الجماعات المسلحة بتجنيد الأطفال لدعم صفوفها وتنفيذ عمليات الإعدام والتخريب والنهب.

التدخل الدولي ونتائجه

في يناير 2013، دفع تصاعد طموحات الجماعات الجهادية نحو التوسع الجغرافي، بعد استيلائها الكامل على شمال مالي، إلى تدخل دولي لدعم القوات المسلحة المالية. وقد قادت فرنسا هذا التدخل من خلال إطلاق عملية “سيرفال”، التي استهدفت إيقاف تقدم الجماعات الإرهابية باتجاه العاصمة باماكو، وتهيئة الظروف لاستعادة وحدة أراضي مالي.

نتج عن عملية سيرفال دخول العديد من الجهات الدولية إلى مالي، بما في ذلك بعثة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة وقوة “تاكوبا” التابعة للاتحاد الأوروبي. رغم النجاح المتعلق بإبعاد الجماعات المسلحة عن العاصمة وتحرير العديد من المدن الكبرى في الشمال، إلا أن الحالة السياسية والأمنية ظلت هشة وغير مستقرة. وفشلت هذه التدخلات في تأمين استقرار دائم في البلاد.

نجحت العملية في البداية باضعاف وتشتيت صفوف الجماعات الارهابية إلا أن ذلك لم يدم طويلًا. اذ استمرت هذه الجماعات في حرب العصابات، مستهدفة القوات المسلحة المالية والقوات الأجنبية عبر هجمات انتحارية وزرع الألغام، مما أدى إلى تجدد دائرة العنف، وظهور أعمال انتقامية مجتمعية، خاصة في وسط البلاد.

بحلول عام 2015، استطاعت الجماعات الإرهابية إعادة تنظيم صفوفها، مستفيدة من تدهور الأوضاع الأمنية في مالي على مدى سنوات. وقد مكنها هذا الوضع من التمدد وزيادة هجماتها ونفوذها في دول غرب إفريقيا المجاورة. منذ عام 2019، عززت هذه الجماعات وجودها في المنطقة الحدودية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ونجحت في تقوية حضورها في السنوات الأخيرة، خصوصًا في ظل انتشار الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة بدءًا من عام 2020.

علاوة على ذلك، أدى انقسام داخلي في صفوف هذه الجماعات الموالية لتنظيم القاعدة في، مايو 2015 إلى ظهور “تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”. وعلى الرغم من أن العلاقات بين التنظيمين كانت في البداية غير تصادمية، إلا أن عام 2020 شهد انقساماً واضحاً بين التنظيمين، مما أدى إلى نشوب صراعات عنيفة.

على مدار العقد الماضي، تجلى فشل التدخلات الأجنبية بشكل واضح. إذ لم تتمكن عملية سيرفال، التي تحولت لاحقًا إلى عملية “برخان” عام 2014، ولا قوات الأمم المتحدة (مينوسما)، التي تُعتبر أكبر مهمة حفظ سلام من حيث الموارد، في احتواء الجماعات الإرهابية، وسجلت عمليات عنف متزايدة أدت إلى مقتل الآلاف من المدنيين وتهجير مئات الآلاف.

  ومع تراكم هذه المعاناة، أدركت السلطات المالية فشل هذه التدخلات، مما دفعها إلى المطالبة برحيل القوات الأجنبية. وفي 18 فبراير 2022، طالبت باماكو بمغادرة قوات “برخان”، ما أدى إلى تصاعد التوترات بين الحكومتين. 

 وفي 30 يونيو 2023، اعتمد مجلس الأمن الدولي قرار إنهاء ولاية بعثة “مينوسما” بناءً على طلب من السلطات المالية، مما يمثل نهاية فعالة للتدخلات العسكرية الأجنبية التي غزت مالي بعد الانفلات الأمني الذي حدث في عام 2012.

في ضوء هذه الأحداث، تبنت السلطات المالية سياسة دفاعية جديدة تركز على تعزيز قواتها المسلحة وقوات الأمن الوطنية. تشمل هذه الاستراتيجية الانسحاب التدريجي للقوات الأجنبية وتركز على بناء قدرات القوات المالية لتحقيق الأمن الداخلي. ومع ذلك، لا تزال تلك الأوضاع الأمنية في مالي مصدر قلق متزايد، خاصة مع استمرار وجود الجماعات المتطرفة وتفشي الصراعات الطائفية.

يمكن أن يُعتبر التدخل الدولي في مالي حالة دراسية للبحث في فعالية الاستجابات العسكرية الدولية في الأزمات المعقدة. تُظهِر التجارب السابقة أن الحلول العسكرية وحدها غير كافية لضمان الاستقرار الدائم. إذ يتعين التركيز على استراتيجيات تنموية شاملة تُعزز الحكم الرشيد وتعالج القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تساهم في تصاعد التوترات.

الحركات الانفصالية واتفاقية السلام

استمر التوتر بين الحكومة المالية والانفصاليين في منطقة كيدال، التي شهدت اشتباكات متكررة. في 18 يونيو 2013، تم إقرار اتفاقية لوقف إطلاق النار بين الحكومة المالية ومتمردي الحركات الأزواد، مما سمح بعودة السلطات المالية إلى كيدال وتحضير الانتخابات الرئاسية التي جرت في 28 يوليو من نفس العام. ومع ذلك، سرعان ما تجددت الاشتباكات في مايو 2014، مما أجبر الجيش المالي على الانسحاب، لتستعيد الحركات المتمردة السيطرة على المدينة.

في عام 2015، وُقعت اتفاقية السلام المعروفة بـ “اتفاق الجزائر”، التي كان الهدف منها هو إنهاء النزاع وتعزيز الحوار بين الحكومة والحركات المتمردة. ومع ذلك، تعرّضت بنود هذه الاتفاقية لخرق متكرر، مما أعاق تحقيق أهدافها. على الرغم من كون الاتفاق خطوة هامة نحو الحوار، فإن غياب التمويل الكافي والإرادة السياسية الجادة ساهمت في فشل تنفيذ الالتزامات الواردة فيه.

في 25 يناير 2024، جاء القرار المفاجئ من الحكومة المالية بالانسحاب رسميًا من اتفاقية الجزائر، مما أثار المخاوف بشأن تجدد الأعمال العدائية وتصاعد التوترات الإقليمية. وشهدت البلاد بالفعل عودة المواجهات بين الجيش المالي وحركات المتمردين الطوارق في الشمال منذ عام 2023، مما يهدد استقرار المنطقة.

أعلن العقيد أسيمي غويتا، رئيس المجلس العسكري في مالي، عن رغبته في إجراء “حوار مباشر بين الماليين” دون وساطة دولية، مما يتعارض مع جوهر اتفاق الجزائر. وقد قدم المجلس العسكري مبرراته لهذا القرار، مشيرًا إلى “تغيير في موقف بعض الجماعات الموقعة” و”استغلال الاتفاق من قبل السلطات الجزائرية، التي تترأس الوساطة”.

هذا القرار جاء في وقت تشهد فيه العلاقات بين مالي والجزائر تدهورًا عميقًا، ويعتبر استمرارًا لسلسلة من القلاقل التي أحدثها الجيش الذي تولى السلطة بالقوة عام 2020.  

الانتقالية السياسي والتوترات الإقليمية 

ومنذ أغسطس 2020، تعيش مالي تحت حكم الجيش. حيث شهدت البلاد انقلابين متتاليين في عامي 2020 و2021. وجاء الانقلاب الثاني بعد تسعة أشهر من الأول. أطاح الانقلاب بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا بعد سلسلة من الاحتجاجات الشعبية التي بدأت في يونيو 2020. جاءت هذه الاحتجاجات نتيجة للاستياء الشعبي المتزايد من فساد الحكومة وتدهور الأوضاع الأمنية، بالإضافة إلى مزاعم تزوير الانتخابات التشريعية التي أُجريت في ذات العام. 

قاد الانقلاب عدد من الضباط العسكريين تحت قيادة العقيد أسيمي غويتا. تعهد المجلس العسكري الجديد باستعادة النظام وتحقيق انتخابات جديدة، لكن الوعود بإصلاحات سريعة والعودة إلى الحكم المدني واجهت العديد من التحديات المعقدة على الأرض. 

على الرغم من ذلك، حظي تغيير النظام بتأييد واسع من الشعب المالي، الذي يعاني من اليأس بسبب عقود من الأزمات الأمنية والمؤسساتية. يعتقد المواطنون أن الطبقة الحاكمة التاريخية هي سلطات غير قادرة على إيجاد الاستجابات المناسبة للتحديات المتعددة التي تواجهها.

في المقابل، شهدت هذه الفترة الانتقالية تطورات تشريعية هامة، مثل الاستفتاء الدستوري الذي أُجري في يونيو 2023، والذي أفضى إلى إصدار دستور الجمهورية الرابعة. والتي حدثت نتيجه الإصلاحات العميقة لإعادة بناء الدولة التي أوصت بها مؤتمر إعادة التأسيس الوطني المنعقد في الفترة من 11 إلى 30 ديسمبر 2021. ترافق ذلك مع إعلان تأجيل الانتخابات الرئاسية المقررة في فبراير 2024، بالإضافة إلى إلغاء المواعيد النهائية الأخرى للانتخابات المحلية والتشريعية، مما زاد من حالة عدم اليقين السياسي.

وشهدت المرحلة الانتقالية التي تلت الانقلاب في مالي تصاعدًا في التوترات مع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (الإيكواس). فرضت الإيكواس عقوبات اقتصادية صارمة بسبب التأجيل المتكرر للانتخابات، ما أدى إلى تمديد الفترة الانتقالية وزيادة الإحباط الشعبي وفقدان الثقة في السلطات الانتقالية.

أثرت هذه العقوبات بشدة على الحياة اليومية في مالي، حيث تم إغلاق الحدود وحظر التبادلات المالية باستثناء السلع الأساسية. وقد شجبت الحكومة المالية العقوبات التي فرضتها الإيكواس بشكل مستمر. 

في خضم هذه التوترات، أعلنت مالي ومعها دولتي بوركينا فاسو والنيجر، اللتان شهدتا أيضًا انقلابات عسكرية، عن تشكيل مجموعة إقليمية جديدة، حيث أُعلن عن تحالف دول الساحل في سبتمبر 2023، وتبع ذلك إنشاء كونفدرالية دول الساحل في يوليو 2024. 

وفي يناير 2024، أعلنت الدول الثلاث انسحابها من الإيكواس، مبررة ذلك بالادعاء بأن المجموعة تخضع لتأثير قوى خارجية، واعتبار العقوبات التي فرضتها “غير قانونية ولا إنسانية”، متهمةً المنظمة أيضًا بعدم تقديم الدعم الكافي لمساعدتها في مواجهة الإرهاب وانعدام الأمن الذي تعاني منه المنطقة منذ أكثر من عقد.

الدور الدولي وأثر التوازن الجيوسياسي

تعتبر مالي مركزاً استراتيجياً في منطقة تتمتع بأهمية جيوسياسية بارزة، حيث تجذب اهتمام المجتمع الدولي بفضل ثرواتها الطبيعية الوفيرة وموقعها الحيوي في غرب إفريقيا. وامتدت حرب النفوذ بين القوى العظمى تدريجياً إلى منطقة الساحل بعد أحداث الربيع العربي والتدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي في ليبيا. وشهد هذا التنافس المحموم على النفوذ، المتسم بتحديات أمنية وقضايا حوكمة معقدة، تحولًا ملحوظًا مؤخرًا نتيجة للتشكيك في التحالفات التقليدية القائمة في بعض مناطق الساحل.

باتت منطقة الساحل مسرحًا للتنافس بين العديد من القوى التقليدية والدولية، على غرار فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، بالإضافة إلى بعض دول الخليج. وفي المقابل، تشهد المنطقة عودة فاعلة لقوى مؤثرة سابقًا، مثل روسيا، وظهور قوى صاعدة تسعى إلى تعزيز نفوذها، كتركيا وإيران. كما تسعى قوى إقليمية، كالمغرب والجزائر، إلى ترسيخ مكانتها في هذا المشهد التنافسي المتنامي.

أسفرت هذه الديناميكية عن تحول في التحالفات، حيث عمدت بعض دول الساحل، لا سيما مالي وبوركينا فاسو والنيجر، إلى رفض الشراكات التقليدية لصالح تحالفات جديدة، غالبًا ما تكون ظرفية، تركز على التعاون الأمني مع دول مثل روسيا وتركيا وإيران. لم يقتصر أثر هذا التوجه على تسهيل الحصول على المعدات العسكرية فحسب، بل مكّن هذه الدول أيضًا من استعادة السيطرة على مناطق كانت سابقًا خارج سيطرتها. ومع ذلك، تظل التحديات الهيكلية المتمثلة في شساعة الأراضي، والفقر المدقع، وتداعيات تغير المناخ، وقضايا الحوكمة الرشيدة، بالإضافة إلى توزيع الثروة، عقبات أمام جهود مكافحة انعدام الأمن. 

ويمكن تحليل تحول مالي نحو تنويع شراكاتها الأمنية في سياق أوسع، باعتباره جزءًا من ديناميكية جيوسياسية إقليمية، تشهد تصاعدًا في تنافس القوى الكبرى على النفوذ في منطقة الساحل. ففي الوقت الذي يتراجع فيه النفوذ الغربي التقليدي، الذي لم يحقق نجاحًا يذكر في احتواء الإرهاب والقضاء عليه طيلة العقد الماضي، تبرز قوى جديدة تسعى إلى تعزيز حضورها وتأثيرها، مستغلة حالة عدم الاستقرار والصراعات القائمة. تحمل هذه التحولات الجيوسياسية في طياتها فرصًا وتحديات جسيمة بالنسبة لمالي، وتتطلب منها إدارة دقيقة ومتوازنة لعلاقاتها الخارجية، بما يحقق مصالحها الوطنية ويضمن سيادتها واستقرارها.

يُعزى هذا التحول في التحالفات إلى إعادة ترتيب جيوسياسي وجيواستراتيجي، ينم عن تحدي السلطة القائمة والأيديولوجية الغربية، ويتجسد في الانقلابات الحكومية التي شهدتها الدول الثلاث المذكورة. وقد أفضى هذا التوجه إلى تغييرات جوهرية في ديناميكيات القوة الإقليمية، مع بروز نزعة واضحة لدى هذه الدول نحو الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا.

علاوة على ذلك، يُعتبر السياق الاجتماعي والاقتصادي بعدًا أساسيًا آخر في هذه الأزمة. فرغم ثرواتها الطبيعية، تواجه مالي تحديات اجتماعية واقتصادية كبيرة، مثل الفقر المستشري والبطالة المرتفعة، خاصة بين الشباب. وتفاقم الصعوبات الاقتصادية بسبب البيئة الأمنية غير المستقرة التي تعيق الاستثمارات والتنمية.

تشكل هذه المجموعة من العوامل – عدم الاستقرار السياسي، الأزمة الأمنية، التوترات الطائفية، والتحديات الاجتماعية والاقتصادية – وضعًا بالغ الحساسية بالنسبة لمالي على الصعيدين الإقليمي والدولي.

  • تقييم الأوضاع الأمنية في مالي:

تعاني مالي من تدهور ملحوظ في أوضاعها الأمنية، وهو تدهور استمر في عام 2024، حيث تأثرت بشكل خاص المناطق الشمالية وتسببت في تفاقم الأوضاع في الوسط والجنوب، مما أدى إلى تداعيات وخيمة على حياة المدنيين.

تواجه البلاد تهديدات إرهابية يومية ترتكبها الجماعات الجهادية المرتبطة بتنظيمي الدولة الإسلامية في الساحل والقاعدة. ويعود جزء كبير من هذا التدهور إلى الفراغ الأمني الناجم عن انسحاب الآلاف من القوات الفرنسية والأوروبية عام 2022، والذي تزامن مع نهاية بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعددة الأبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي (مينوسما) بحلول نهاية 2023. هذه التحولات أدت إلى تعزيز أنشطة الجماعات المسلحة.

في هذا السياق، برزت كتيبة ماسينا، التي تشكل جزءًا من تحالف “نصرة الإسلام والمسلمين” الموالي لتنظيم القاعدة. ازداد نشاط هذه الجماعة حيث قامت بشن هجمات معقدة على البنية التحتية الحيوية، مثل مطار العاصمة باماكو ومطار مدينة سيفاري، فضلاً عن الهجمات التي استهدفت مواقع قوات فاغنر والقوات المسلحة المالية في مناطق كاي وكوليكورو، وهو ما يشير إلى توسع نفوذها إلى مناطق أبعد في الجنوب، مما يعكس تحسن تكتيكاتها وهجماتها.

وتواصل الجماعات المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية عملها في منطقة الحدود الثلاثية بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، ومع ذلك، تراجعت قوتها في مالي وبوركينا فاسو لصالح الجماعات الموالية لتنظيم القاعدة، وأصبحت أكثر نشاطًا في النيجر.

أسفر انسحاب بعثة الأمم المتحدة أيضاً عن تجدد الاشتباكات العنيفة بين القوات المسلحة المالية والحركات الانفصالية السابقة في شمال البلاد، ما أدى إلى سقوط مئات القتلى من كلا الجانبين. وقد شهدت الأشهر الأخيرة من عام 2023 تصاعدًا ملحوظًا في حدة النزاعات، حيث كثفت القوات المسلحة المالية عملياتها العسكرية في أغسطس وسبتمبر بهدف السيطرة على القواعد التي كانت تديرها البعثة الأممية في شمال البلاد.

بين عامي 2023 ونهاية 2024، تزايدت حدة الهجمات والاشتباكات المسلحة، حيث كانت الأكثر شيوعًا، تليها الاستخدام المتكرر للعبوات الناسفة من قبل الجماعات المتطرفة على طول الطرق الرئيسية، خاصة في المنطقة الوسطى من البلاد، بينما انخفضت حالات الاختطاف. وقد أودى هذا التصعيد بحياة حوالي 400 شخص، بما في ذلك عدد كبير من المدنيين، مما أسفر عن أزمة إنسانية حادة تمثلت في تهجير الآف الأشخاص وزيادة صعوبة وصول المساعدات الإنسانية

تحسن واضح رغم التحديات

على الرغم من الظروف القاسية، شهدت مالي مؤخرًا تحسنًا ملحوظًا في جهودها لمكافحة الإرهاب، خصوصًا في المناطق الشمالية. القوات المسلحة المالية كثفت من عملياتها هناك، محققة تقدمات ملموسة ضد الجماعات الإرهابية التي تهيمن على مناطق الشمال منذ عام 2012. إن استعادة مدينة كيدال، التي تمثل مركزًا استراتيجيًا للتمرد الطوارقي ومأوى للقيادات الإرهابية، تعتبر علامة فارقة في هذا الجهد. إذ أن السيطرة على هذه المدينة تعزز قدرة القوات المسلحة المالية على إعادة تأكيد سلطتها وإعادة بناء الثقة في المؤسسات الحكومية.

رافق هذا التقدم تعزيز قدرات الجيش، عن طريق الاستحواذ على معدات حديثة مثل المقاتلات الجوية والطائرات بدون طيار، مما ساهم في تحسين الأداء العملياتي ضد الجماعات المسلحة، وتنفيذ عمليات منسقة ضد الجماعات المسلحة.

 بالإضافة إلى ذلك، لعب الفيلق الإفريقي الروسي، المعروف سابقًا بمجموعة فاغنر، دورًا في هذا الأنجاز العسكري، رغم ما يتعرض له من انتقادات تتعلق بالعنف الذي تسببت به انتهاكاته لحقوق الإنسان.

على الرغم من هذه الانتصارات العسكرية، إلا أن الجماعات الإرهابية لا تزال تحتفظ بقدرتها على تنفيذ الهجمات، كما تظل الوضعية على الأرض متقلبة. لا تزال هذه الجماعات تنفذ عمليات غير متكافئة، بما في ذلك الهجمات السريعة وزرع العبوات الناسفة. ورغم وجود بوادر تحسن في بعض المناطق، إلا أن التحديات المستمرة مثل الفوضى الاجتماعية، والفساد، وفقدان الحوكمة، تشكل عقبات كبيرة أمام تحقيق السلام والمصالحة الوطنية في مالي.

نحو تصعيد جديد مع المجموعات المتمردة؟

 منذ أغسطس 2023، تشهد شمال مالي تصعيدًا جديدًا في أعمال العنف بين القوات المسلحة المالية ومقاتلي الحركة الوطنية لتحرير أزواد وفصائل انفصالية أخرى، التي كانت قد وقعت على اتفاق سلام مع الدولة المالية في عام 2015. وقد جاءت هذه التطورات بعد حوالي ثمانية أعوام من توقيع الاتفاقية، التي تم التوصل إليها بوساطة جزائرية وأوقفت القتال بين الأطراف في ذلك الوقت.

في نوفمبر 2023، استعادت القوات المسلحة المالية، بدعم من شركائها الروس، السيطرة على مدينة كيدال، المعقل التاريخي للتمرد، التي ظلت بيد المتمردين منذ عام 2012. مثلت هذه التطورات ذروة تجدد النزاع الذي اندلع في أغسطس 2023 بين القوات الحكومية والموقعين على اتفاق الجزائر، بالإضافة إلى استمرار الهجمات الجهادية في وسط وشمال البلاد.

في أكتوبر 2023، تقدمت قافلة عسكرية مالية، برفقة عناصر من مجموعة فاغنر الروسية، نحو مدينة كيدال. وتمكنت القوات في 14 نوفمبر من استعادة المدينة بعد تقدم بطيء واشتباكات متوسطة الشدة مع الجماعات المسلحة المتمردة. وأسهمت قدراتها اللوجستية وتفوقها العسكري، الذي شمل استخدام الطائرات المقاتلة والطائرات المسيّرة والمعدات المدرعة وأنظمة الرؤية الليلية التي تم الحصول عليها مؤخرًا، في تحقيق هذا النجاح. نتيجة لذلك، اختارت الجماعات المسلحة المتمردة عدم مقاومة دخول القوات المالية إلى المدينة، وفضلت إخلاءها والعودة إلى أساليب الحرب غير المتكافئة وحرب العصابات.

استعادة كيدال لم تكن مجرد انتصار عسكري، بل كانت أيضا تهدف لتأكيد سيادة الدولة على كافة أراضيها. وقد حاز هذا التحرك دعمًا كبيرًا من الرأي العام، وخصوصًا من الفئات المعارضة لطموحات الانفصال.

خروج قوات بعثة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة (مينوسما) من مالي شكل دافعاً لتجدد الأعمال العدائية بين القوات المالية والجماعات المتمردة. ومع ذلك، تعود جذور هذا التصاعد إلى أسباب أعمق. 

في 30 نوفمبر 2024، وفي ظل تصاعد التوترات، أعلنت الحركات المسلحة الانفصالية عن تشكيل “جبهة تحرير الأزواد” (FLA). تتبنى هذه الائتلاف ككيان سياسي عسكري، لتجديد المطالبة بحق تقرير المصير لشعب الأزواد، وتسعى إلى توحيد الفصائل الانفصالية التي ضعفت بسبب العمليات العسكرية الأخيرة. 

تُبرر الجبهة تشكيلها بالعنف الذي تمارسه القوات المالية وحلفاؤها الروس ضد المدنيين. ورغم الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها من نتائج الضربات الجوية، تُظهر قيادة الجبهة إصرارها على الاستمرار في نضالها من أجل الاستقلال، وهو موقف قد يؤدي إلى تصعيد العنف في المنطقة ويجعل الوضع الأمني أكثر هشاشة.

ومنذ بدئها، تعرضت الجبهة لضربة قوية مع مقتل عدد من قادتها البارزين. في 1 ديسمبر 2024 اي في اليوم التالي من تأسيس الكيان الجديد، أدت ضربة لطائرة مسيرة تابعة للجيش المالي في منطقة تنزاواتين، بالقرب من الحدود الجزائرية، إلى مقتل ثمانية قيادات من بينهم قادة حركات ووجهاء قبائل، مما يزيد من تعقيد التحديات الأمنية.

في ظل هذا السياق المتسم بالعنف المتزايد، ومن المحتمل أن تستغل الجماعات الجهادية، التي عززت وجودها خلال العقد الماضي، هذه الظروف لتعزيز قوتها بشكل أكبر. وتشير الأحداث الأخيرة إلى أنه، على الرغم من النجاحات العسكرية على الأرض، فإن مالي تواجه نقطة تحول حرجة حيث قد يتصاعد العنف من الجانبين، مما يزيد من التوترات العرقية و الاقليمية. الوضع الحالي يتطلب استجابة استراتيجية ومدروسة من السلطات المالية لتجنب دوامة من النزاع قد تؤدي إلى تأثيرات دائمة على الاستقرار والأمن في المنطقة.

 تحالف دول الساحل

وفي مواجهة التهديدات المتصاعدة وحالة عدم الاستقرار الإقليمي، بادرت مالي بالتعاون مع بوركينا فاسو والنيجر إلى تأسيس تحالف دول الساحل (AES) في سبتمبر 2023. تهدف هذه المبادرة إلى توحيد الجهود العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية، بهدف مكافحة الإرهاب والجريمة العابرة للحدود بشكل فعال. يدرك قادة هذه الدول أن التحديات الأمنية مترابطة، وتستدعي تبني نهج جماعي ومتكامل.

يُمثل إنشاء تحالف دول الساحل إعادة هيكلة جوهرية للعلاقات الأمنية في غرب إفريقيا، من خلال إرساء دعائم نظام للدفاع المتبادل والحد من الاعتماد المفرط على القوى الغربية. ويعكس هذا التحول الاستراتيجي سعي هذه البلدان لتعزيز سيادتها في مواجهة التحديات الإقليمية المتفاقمة.

قد يُسهم إنشاء قوة عسكرية موحدة ضمن إطار التحالف في تعزيز فعالية العمليات العسكرية، من خلال دمج القدرات المتنوعة للدول الثلاث. ومع ذلك، لكي تكون هذه الشراكة مثمرة بحق، فمن الضروري تبني نهج شمولي لا يقتصر على الاعتبارات العسكرية فحسب، بل يشمل أيضًا مبادرات اجتماعية واقتصادية تهدف إلى معالجة الأسباب الجذرية للصراعات في المنطقة.

على المدى البعيد، ينطوي هذا التحالف على إمكانية تحقيق استقرار مستدام في منطقة الساحل، إلا أن نجاحه مرهون بقدرة الدول الأعضاء على تجاوز خلافاتها وتعزيز التعاون المستمر. ويتعين على التحالف أيضًا مراعاة الحقائق المحلية وإشراك الفاعلين من المجتمع المدني والمنظمات المجتمعية في جهوده، بما يضمن تبني نهج شامل وتشاركي.

يُمثل تحالف دول الساحل خطوة إقليمية واعدة نحو تحقيق الاستقرار المنشود في منطقة الساحل، لكن من الضروري أن تعمل جميع الأطراف المعنية بتضافر الجهود، لضمان أن تكون أصوات الشعب المالي حاضرة ومحورية في القرارات التي ستُحدد مستقبله. فبدون تضافر الجهود لمعالجة مخاوف الجميع، يظل خطر عودة العنف قائمًا بقوة، مما يُنذر بانزلاق البلاد نحو دوامة من عدم الاستقرار العميق. 

مستقبل اتفاقيات السلام والمصالحة:

يشهد مسار السلام في مالي منعطفا حرجا حيث يواجه حالة من الضبابية وعدم اليقين فبعد سنوات من الهدوء النسبي تجددت الاشتباكات بين القوات الحكومية والحركات الانفصالية وقد ادى هذا التصعيد الى اتخاذ الحكومة المالية في يناير 2024 قرارا بالانسحاب رسميا من اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر (2015) مما يضع مستقبل المصالحة في البلاد على المحك 

تأتي هذه الخطوة بعد تصاعد حدة الاشتباكات بداية في أغسطس 2023  بين القوات الحكومية والجماعات المتمردة المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، حيث بررت الحكومة قرارها بعدم جدوى الاتفاقية في تلبية احتياجات البلاد بعد تسع سنوات من التوقيع وتغير مواقف الأطراف الموقعة. اضافة لاتهام مالي للجزائر باستغلال دورها كرئيسة الوساطة كأداة لتحقيق أهداف سياسية خارجية، لفرض هيمنة إقليمية واستغلال الأزمات الداخلية مالي لزيادة نفوذها . 

كان من المفترض أن يضع اتفاق السلام والمصالحة في مالي، الذي تم توقيعه في الجزائر العاصمة عام 2015، حدًا للصراعات التي عصفت بشمال البلاد منذ عام 2012، والتي شملت مواجهات بين الحكومة والجماعات المسلحة المختلفة، وعلى الرغم من الآمال التي أثارها الاتفاق، إلا أن تنفيذه واجه عقبات عدة،  بما في ذلك غياب الثقة بين الأطراف الموقعة والإرادة السياسية، والخلافات حول تفسير وتطبيق بنود الاتفاقية، إلى إعاقة التنفيذ، لا سيما تلك المتعلقة بنزع السلاح والتسريح وإعادة إدماج المجموعات المسلحة في الجيش الوطني أو الحياة المدنية بطيئة وغير فعالة.، وتلك المتعلقة بالحكم الذاتي لمناطق الشمال التي طالب بها الانفصاليون، الانتهاكات المتكررة لاتفاقيات وقف إطلاق النار . وتنامي التهديدات الجهادية لم يأخذ الاتفاق في الاعتبار تنامي قوة الجماعات الجهادية، التي واصلت شن الهجمات وزعزعة استقرار البلاد، وضعف الحوكمة والفساد والافتقار إلى الإدماج الاجتماعي والاقتصادي إلى تفاقم إحباطات السكان المحليين، وإضعاف جهود التهدئة.. وقد أدى ذلك إلى عدم تنفيذ الجزء الأكبر من بنود الاتفاقية.

 كما  أسهمت المنافسات الإقليمية والمصالح الأجنبية في تعقيد الوضع، حيث ألقت الحكومة المالية باللوم على التأثيرات الخارجية التي، بحسب رأيها، أعاقت عملية السلام، مافي ذلك الجزائر الوسيطة الرئيسية للاتفاق، والتي اتهمها السلطان في مالي بالتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد، وذلك بعد أن اقامت الجزائر لقاءات متكررة مع جهات متمردة وشخصيات معارضة للسلطات في مالي بدون علم الحكومة. مما أدى إلى تدهور العلاقات بين البلدين، وتشكيك في دور الوساطة. 

في ظل هذه التحديات، اقترحت الحكومة المالية مقاربة جديدة ترتكز على حوار وطني شامل بين الاطراف المالية بهدف ايجاد حلول محلية للتحديات التي تواجهها البلاد بعيدا عن التدخلات الخارجية وتهدف هذه المبادرة إلى جمع القوى الرئيسية في البلاد لإيجاد حلول للتحديات التي تواجهها، وإلى وضع إطار للمصالحة يعالج مظالم الماضي ويؤسس لأمة مسالمة.

الا ان هذه المبادرة تواجه معارضة من بعض الحركات الانفصالية في الشمال التي ترفض المشاركة في الحوار المقترح وتعتبره محاولة لانهاء اتفاقية 2015 بشكل احادي. 

 يبقى مستقبل السلام في مالي غير مؤكد، فالانسحاب من اتفاق 2015 والرهان على حوار داخلي يفتح المجال أمام مرحلة جديدة، قد تحمل الأمل، ولكنها تحمل أيضًا تحديات جديدة. ويعتمد نجاح هذا النهج على عدة عوامل، أهمها: القدرة على إشراك جميع أصحاب المصلحة، بما في ذلك الجماعات المسلحة والمجتمعات المحلية والمجتمع المدني، وقدرة الحكومة المالية على استعادة الثقة وإقناع الشعب بصدقيتها، وقدرة الحوار الجديد على اقتراح حلول ملموسة وواقعية لمشاكل البلاد، ومعالجة الأسباب الجذرية للتوترات المجتمعية، وقدرة الحكومة على استعادة الأمن ووقف التهديد الجهادي.

تقف مالي عند مفترق طرق، حيث يجب عليها تحقيق التوازن بين ماضيها وتطلعات المستقبل. وتتوقف آفاق السلام على قدرتها في إيجاد حلول مستدامة لتحدياتها المعقدة. يتطلب ذلك حوارًا شاملًا، ومصالحة وطنية، وإصلاحات في الحوكمة والأمن والاقتصاد، بالإضافة إلى دعم دولي مستدام.

  • مستقبل الديمقراطية في مالي

يبدو أن مستقبل الديمقراطية في جمهورية مالي، الذي يحمل آمالًا متجددة عقب فترة انتقالية مليئة بالتحديات، يسير نحو تفاؤل حذر. من المزمع إجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية في عام 2025، والتي يُنتظر أن تمثل نهاية هذه الفترة الانتقالية. إلا أن نجاح هذه العملية يعتمد بشكل أساسي على تحديث الإطار الانتخابي وبناء الثقة بين الحاكمين والمحكومين، لتحقيق استقرار سياسي والحد من الأزمات المستمرة التي تعاني منها البلاد.

على مدار العقد الماضي، عانت مالي من ثلاث انقلابات عسكرية أدت إلى تآكل مؤسساتها الديمقراطية. ورغم أن الدعم الشعبي للجيش قد ازداد، إلا أن الانقسام الاجتماعي المتزايد يعكس استياءً واسعًا من الانقلابات العسكرية، مما يبرز الحاجة الملحة لإصلاحات هيكلية حقيقية. إن القضايا العديدة التي تعاني منها البلاد مثل الفساد، الأزمات الاقتصادية، وغياب العدالة تعتبر عقبات رئيسية تحول دون تحقيق النمو الديمقراطي المنشود.

هل يتراجع دعم الديمقراطية في مالي لصالح البدائل الأخرى؟

تشير دراسة أجرتها مؤسسة “أفروباروميتر” في عام 2022، إلى تراجع دعم الديمقراطية في مالي، حيث تفيد النتائج بأن أغلب المواطنين يُفضلون النظام العسكري على غيره من أنظمة الحكم، بل أبدى 40% فقط من المشاركين انحيازًا للديمقراطية. كما يتجلى ضعف المشاركة السياسية في الانخفاض الملحوظ في نسبة المواطنين المرتبطين بالأحزاب السياسية، مما يعكس عدم الثقة في النظام الحالي. وفي سياق مماثل، أظهرت البيانات أن حوالي 75% من المواطنين يشعرون بعدم الرضى حيال كيفية تطبيق الديمقراطية في بلادهم.

بالإضافة إلى ذلك، تم تسجيل انخفاض ملموس في المشاركة الانتخابية، مع تراجع النسبة من 65% في عام 2002 إلى أقل من 35% في عام 2018، مما يؤكد الشعور بعدم الثقة في نظام الانتخابات. يتضح ذلك من خلال نتائج استطلاع “مالي ميتر 2024” الذي أيد فيه 87% من الماليين قرار تأجيل الانتخابات المقررة في فبراير 2024. ومن ناحية أخرى، تظهر الاستطلاعات تقدمًا نسبيًا في قبول المواطنين للسلطات العسكرية القائمة، حيث أبدى 96% منهم بعض الرضا عن إدارتها.

رغم وجود توجس من نوعية الإصلاحات المطلوبة، تشير التوجهات إلى أن أكثر من 61% من الماليين يرون أن الانتقال الحالي قد يؤدي إلى نظام ديمقراطي مستقر، لكن هذا يتطلب بالضرورة حلولاً مبتكرة ترمي إلى تنظيم انتخابات حرة ونزيهة، مما يساهم في تعزيز الاستقرار السياسي والتنمية المستدامة.

مسؤولية القادة الماليين تكمن في إعادة تقييم الخيارات المتاحة، حيث يتوجب على السلطات الانتقالية اقتراح استراتيجيات جديدة للتغيير تشمل تعديلات تشريعية وإجراءات فعالة لتعزيز الشفافية والمشاركة الفعالة.

 تجديد الديمقراطية في مالي

لتحقيق تجديد ديمقراطي حقيقي في مالي، يتعين تنفيذ استراتيجيات تعزز مشاركة المواطنين وتستعيد الثقة بين الفاعلين المدنيين والسياسيين. من الضروري توسيع نطاق مشاركة المواطنين من خلال برامج الإعلام والتدريب، مما يشجع على الانخراط الفعّال في الانتخابات والشؤون العامة. كما يمكن أن تسهم آليات إقالة المسؤولين المنتخبين قبل انتهاء ولاياتهم في تعزيز المساءلة. 

يجب أن يتوافق العرض السياسي مع احتياجات المجتمع، مع التركيز على القيم والأيديولوجيات بدلاً من الشخصيات، وتعزيز تمثيل الفئات المهمشة. يتطلب تعزيز الفصل بين السلطات لفعالية الديمقراطية، مع دعم استقلال القضاء وقدرات البرلمان. 

من المهم بناء الثقة بين المواطنين والمؤسسات السياسية، مما يتطلب تنظيم مناقشات حول الحوكمة والإصلاحات الاقتصادية. يجب أن يستند الحكم الديمقراطي إلى الالتزام بالمبادئ الأخلاقية، واستخدام أشكال جديدة من المشاركة، مثل وسائل التواصل الاجتماعي، لتعزيز الاتصال بين المواطنين وممثليهم.

رغم التزام الماليين بمبادئ الديمقراطية، فإن التحدي يكمن في تحويل هذا الالتزام إلى واقع سياسي يتجاوز العمليات الانتخابية ليشمل العدالة الاجتماعية والإنصاف. ويتعين على الأحزاب السياسية تلبية احتياجات جميع الفئات، مع تعزيز الوحدة والتضامن. في النهاية، يتطلب التجديد الديمقراطي جهودًا متواصلة لبناء الثقة والمشاركة لتصبح الديمقراطية واقعًا ملموسًا للجميع.

  • نظرة مستقبلية: 

يبدو مستقبل مالي معلقًا على مفترق طرق حرج، حيث تتداخل فيه التحديات السياسية والأمنية والاقتصادية والجيوسياسية لتشكل مشهدًا معقدًا ومتقلبًا. لا تزال التوترات السياسية المتصاعدة، والعنف الإرهابي المستمر، والتحديات الاجتماعية والاقتصادية المتراكمة، تشكل معضلات حقيقية تتطلب معالجة شاملة ومتكاملة، تتجاوز الحلول الجزئية والآنية.

مع استعداد البلاد لإجراء انتخابات هذا العام 2025، ترتفع توقعات الشعب المالي نحو تحقيق استقرار سياسي دائم. ومع ذلك، تبقى الشكوك قائمة حول قدرة الحكومة الانتقالية على تنظيم انتخابات نزيهة وشفافة، خاصة في ظل الأوضاع الأمنية الهشة. يتوقع أن تتسم هذه الانتخابات بقدر كبير من التوترات، في ظل التحديات المتنوعة مثل المجموعات المسلحة والنزاعات القبلية.

ستكون المرحلة المقبلة حاسمة في توجيه التحولات السياسية في البلاد. إذا تمكنت الحكومة من ضمان إجراء الانتخابات بنجاح، فقد يسجل ذلك بداية جديدة، يمنح الشعب المالي الأمل في تحقيق الأمن والاستقرار. ومع ذلك، قد تتسبب الأزمات الحالية في إعاقة العملية الانتخابية، مما يزيد من احتمالية تفجر الاحتجاجات وعدم الاستقرار.

من المتوقع أن تستمر التحديات الأمنية خلال السنوات القادمة، حيث تشير التقديرات إلى أن الجماعات الإرهابية لا تزال قادرة على تنفيذ عمليات مستهدفة في المناطق النائية. على الرغم من النجاح النسبي للقوات المالية في استعادة السيطرة وبسط سلطتها على اغلب المناطق، لا تزال المخاطر قائمة من خلال وجود خلايا قادرة على الهجوم، مما يجعل مشهد الأمن معقدًا.

قد تؤدي التطورات في الساحة العالمية، وخاصة الصراعات في المناطق القريبة من مالي، إلى تعقيد الوضع الأمني. على سبيل المثال، قد تؤثر استمرار الأزمات في ليبيا والسودان ومنطقة الساحل والصحراء بشكل عام على جهود الحكومات المحلية في محاربة الإرهاب وتحقيق الاستقرار.

في هذا السياق، يبرز تحالف دول الساحل كبادرة إقليمية واعدة نحو تحقيق الاستقرار، إلا أن نجاحه يتوقف على قدرة الدول الأعضاء على تجاوز خلافاتها وتعزيز التعاون المستمر، وإشراك المجتمع المدني والمنظمات المجتمعية في جهود مكافحة الإرهاب.

كما أن استمرار التدخلات الأجنبية، وتصاعد التنافس الجيوسياسي في المنطقة، يُلقي بظلاله على مستقبل مالي، ويستدعي إدارة حكيمة ومتوازنة للعلاقات الخارجية، بما يحقق المصالح الوطنية ويضمن السيادة والاستقرار.

بصفة عامة، تتجه مالي نحو فترة من التغيرات الكبيرة، لكن الأمر يتطلب الكثير من الجهود لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني. الانتخابات المزمع إجراؤها في 2025 قد تكون نقطة تحول، لكن نجاحها يعتمد على قدرة الحكومة على معالجة التحديات الأمنية والتهديدات الداخلية والخارجية. يتعين على الشعب المالي والمجتمع الدولي متابعة هذه التطورات عن كثب لضمان مستقبل مستقر وآمن لم مالي.

خاتمة:

باختصار، تمر مالي بنقطة تحول حاسمة في تاريخها. حيث تتشابك التحديات السياسية والأمنية والإنسانية لتشكل لوحة معقدة تتطلب فهما عميقاً واستجابة متكاملة. إن التطورات الأخيرة تكشف عن بلد يواجه صعوبات جمة، ولكنه أيضا يحمل في طياته إمكانات حقيقية للتغيير والتقدم.

إن الأوضاع الراهنة تُلزم جميع الأطراف المعنية، سواء داخل مالي أو على الصعيد الدولي، بإدراك أن الحلول الجزئية والآنية لن تُجدي نفعاً. فالمعضلات المترابطة التي تواجهها البلاد، من عدم الاستقرار السياسي وتصاعد العنف، إلى الأزمات الإنسانية والتحديات الاقتصادية، تتطلب تبني نهج شمولي ومتكامل، يرتكز على الحوار الوطني الشامل، ويُراعي حقوق الإنسان، ويُعزز الحكم الرشيد، ويُحفز التنمية الاجتماعية والاقتصادية المستدامة.

وفي هذا السياق، يبرز الدور الحيوي للمجتمع الدولي، الذي يقع على عاتقه مسؤولية تقديم دعم فعال ومستدام لمالي، بما يُسهم في تحقيق المصالحة الوطنية، وترسيخ السلام الدائم، وتلبية تطلعات الشعب المالي نحو مستقبل أفضل. إلا أن هذا الدعم لا ينبغي أن يكون مشروطاً أو موجّهاً، بل يجب أن يستند إلى رؤية مشتركة، واحترام كامل لسيادة مالي، وتفهم عميق لخصوصيتها الثقافية والاجتماعية.

إن الماليين، وعلى الرغم من التحديات الجسام التي يواجهونها، لا يزالون متمسكين بقيم الديمقراطية والحرية والعدالة. إلا أنهم، في الوقت ذاته، يرفضون الممارسات والسلوكيات السياسية التي أدت إلى تفاقم الأوضاع، وتآكل الثقة في المؤسسات. ومن هنا، فإن التجديد الديمقراطي، وإصلاح المؤسسات السياسية، وإشراك الشباب والمرأة والفئات الأكثر تهميشًا، تُعدّ من الركائز الأساسية التي لا غنى عنها لبناء مالي المستقبل.

إن مستقبل مالي ليس قدراً محتوماً، بل هو رهن بالاختيارات التي ستتخذها القيادات المالية والشعب المالي. فبالعمل المشترك، والالتزام الصادق، والرؤية الواضحة، يمكن لمالي أن تتجاوز هذه المرحلة الدقيقة، وأن تُحقق طموحاتها نحو مستقبل ينعم بالسلام والعدل والرخاء. إلا أن هذا المستقبل لن يتحقق إلا إذا تمكنت مالي من معالجة جذور المشكلات التي تواجهها، وتوفير الفرص المتكافئة لمواطنيها، وبناء مجتمع متماسك ومتسامح. إن القرارات التي ستتخذ اليوم ستحدد مسار مالي في المستقبل، وستترك بصمتها على منطقة غرب إفريقيا بأسرها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى