قمة أفريقيا الجديدة: آفاق الدور السعودي في القارة السوداء
مقدمة
شهدت العاصمة السعودية الرياض في 28 أكتوبر الجاري افتتاح أعمال ما عرفت “بقمة أفريقيا الجديدة” على هامش النسخة الثامنة من مبادرة مستقبل الاستثمار (السعودي)، وحسب تصريحات وزير المالية السعودي محمد بن عبد الله الجدعان، الذي افتتح فعالياتها، فإنه من المتوقع أن تقدم السعودية لأفريقيا حزمة من المبادرات الاستثمارية والتمويلية والإنمائية بقيمة تتجاوز 41 بليون دولار في الأعوام العشرة المقبلة بمتوسط يتجاوز 4 بليون دولار سنويًا وهو مبلغ كبير نسبيًا عند مقارنتها بحزم المساعدات المماثلة التي تقدمها دول كبرى ومتوسطة لأفريقيا، مما يضع السعودية في مصاف أكبر المانحين للمساعدات الإنمائية لأفريقيا عالميًا. وتوقع الجدعان وصول استثمارات القطاع الخاص السعودي في القارة الأفريقية في العقد المقبل إلى 25 بليون دولار إضافة إلى بعض المبادرات الحكومية التي بدأت المملكة في تنفيذها منها ما يتجاوز بليون دولار في مبادرة “خادم الحرمين الشريفين الإنمائية في أفريقيا”، وتخصيص 5 بليون دولار من الصندوق السعودي للتنمية لتنفيذ مشاريع تنموية في أفريقيا، وتخصيص بنك التصدير والاستيراد نحو 10 بليون دولار لتقديم منتجات تمويلية للقارة السمراء على مدار العقد المقبل مع البدء فعليًا في تنفيذ هذه المبادرات بالفعل بعد إطلاق القمة السعودية الأفريقية الأخيرة في الرياض في نوفمبر من العام الماضي.
أجندة “أفريقيا الجديدة”: نظرة عامة
كشفت مؤشرات انعقاد قمة أفريقيا الجديدة عن تركيز أجندة القمة على عدة قطاعات مشتركة بين السعودية والدول الأفريقية وهي الكهرباء والمعادن والشباب؛ وهي القطاعات التي ركز عليها المجتمعون في الرياض قبل 24 ساعة من انطلاق “مبادرة مستقبل الاستثمار” Future Investment Initiative (FII) ويجتذب قطاع الشباب اهتمامًا كبيرًا من السعودية، لاسيما أن متوسط عمر سكان القارة الأفريقية يصل عند 19 عامًا فقط لتمثل أفريقيا أكثر قارات العالم شبابًا، مع تجدد نغمة اعتبار القارة، بمواردها الزراعية بالغة الوفرة والثراء، “سلة غذاء” للأقاليم المجاورة لها لاسيما دول الخليج العربي. كما أكد مسئولون سعوديون أن المعادن، التي تملك أفريقيا ثلث احتياطيات العالم منها، باتت “الوقود الجديد للمرحلة المقبلة من التنمية الاقتصادية”، وان الرياض تريد العمل مع أفريقيا “لخلق فرص استثمارية” (مشتركة). كما تعتزم الرياض النشاط بقوة في قطاع التكنولوجيا في أفريقيا لاسيما بعد حصولها على ضوء أخضر أمريكي لاستيراد شرائح نفيديا Nvidia المتقدمة المستخدمة في تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي، لتكون الدولة الشرق أوسطية العربية الوحيدة التي حصلت على هذا الامتياز إلى جانب الإمارات التي التزمت بدورها (بالتعاون مع مايكروسوفت) باستثمار بليون دولار لإقامة مركز معلومات ومعمل ذكاء اصطناعي في كينيا ([1]).
واتضح تشبيك الرياض لمبادراتها ومصالحها الاقتصادية في أفريقيا مع الاهتمام الواضح بتعزيز قدرات الشباب الأفريقي في تخصيص 5 بليون دولار من صندوق التنمية السعودي لدعم الشركات الناشئة الأفريقية خلال العقد المقبل، بالتوازي مع تمويل بقيمة 10 بليون دولار من بنك التصدير والاستيراد السعودي. فيما ارتفع سقف الوعود السعودية، دون توضيح دقيق للمسارات المنفصلة لها كما جرت العادة بخصوص حزم المساعدات السعودية “لأفريقيا”، بتأكيد وزير المالية أن مجموعة التنسيق العربي Arab Coordination Group، وهي مجموعة من الممولين الإقليميين (الذين تدعمهم حكومات بلادهم)، قد تكونت بغرض تقديم قروض لأفريقيا بقيمة 50 بليون دولار على مدار العقد القادم ([2]).
ورغم الثقل الذي تلقيه الحكومة السعودية وراء نفاذ مبادراتها ومشروعاتها داخل القارة الأفريقية وتعظيم الاستفادة المتبادلة المترتبة عليها، فإن حدود مشاركة القطاع الخاص (السعودي ومتعدد الجنسيات والأفريقي بطبيعة الحال) تبدو غير مسبوقة من جهة توسعها؛ فقد شارك في ترؤس القمة توني إلوميلو Tony Elumelu رئيس (مجموعة) هيرز هولدنجز Heirs Holdings و(مجموعة) البنك المتحد الأفريقي United Bank for Africa (UBA) (المؤسس منذ سبعة عقود ويعمل في عشرين دولة أفريقية جنوب الصحراء إضافة إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة والإمارات العربية وعبر مكتب تمثيل في فرنسا)، وتعهد بأن تكون أفريقيا في قلب بقية مناقشات دورة “مبادرة مستقبل الاستثمار” الثامنة. كما يبدو أن إلوميلو سيتولى عرض وجهة نظر أفريقية في فعاليات المبادرة التي تستمر حتى نهاية أكتوبر بحضوره فعالية “مجلس صناع التغيير: الصيرفة والاستثمار” لمناقشة رؤى القادة المعنيون “بتكوين نظم اقتصادية جديدة” تعزز الابتكار([3])؛ فيما يؤشر إلى قيادة السعودية في المرحلة المقبلة جهودًا دولية وإقليمية منسقة (ستكشف عن حدودها مخرجات القمة وتطبيقاتها) للعمل الدولي في أفريقيا وتطبيق توجهات محددة خلاصتها ربط مشروطيات تقديم حزم المساعدات بالحصول على صفقات تفضيلية (وربما بشروط تنتهك السيادة التقليدية للدول الأفريقية أو على الأقل الشفافية المفترضة في عقد مثل هذه الصفقات وتمريرها صوريًا دون مراجعات تشريعية جادة) وضمان تحقيق الدول التي تقدم هذه المساعدات على عائدات منتظمة من استغلال الموارد الأفريقية (كما أرست الإمارات نموذجها في هذا المضمار بشكل بالغ الوضوح في الأعوام الأخيرة).
السعودية وملف إعفاء أفريقيا من الديون
دعا وزير المالية السعودي خلال القمة دول العالم المختلفة للمساعدة في التوصل لحلول لمشكلة الديون في أفريقيا المقدر قيمتها بنحو تريليون دولار، فيما لفتت الرياض إلى تحقيق تقدم في تعهداتها بتوفير 5 بليون دولار لتمويل التنمية للقارة، وانطلقت الرياض في دعوتها تلك من منطلقات مسئولياتها إذ تتولى راهنًا رئاسة اللجنة النقدية والمالية الدولية (بصندوق النقد الدولي) ومجموعة البنك الدولي ومجموعة العشرين. ومن نفس المنطلق دعت السعودية إلى تطوير حلول لمعالجة ديون الدول الأفريقية وخاصة الدول ذات الدخل المنخفض. واتسقت هذه الدعوات مع مهام اللجنة المذكورة التي تتولى في الأساس تقديم استشارات وتقارير لمحافظي صندوق النقد الدولي. كما جاءت دعوة السعودية منطقية مع تعاظم خطورة أزمة الديون في أفريقيا وارتفاع مستويات الأخير بنسبة 183% منذ العام 2010 وهي زيادة تفوق بأربعة أضعاف معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا ككل. كما وصل الدين العام في أفريقيا إلى 1.8 تريليون دولار في العام 2022 وهو مستوى قياسي للغاية يعوق عمليًا قدرة الدول الأفريقية على التغلب على أزمات غير متوقعة أو الاستثمار في التنمية. ولمحت السعودية إلى مساعدتها القيمة لكل من تشاد وزامبيا وغانا وإثيوبيا في مواجهة أزمة الديون ([4]).
كما وقع بنك التصدير والاستيراد السعودي خلال القمة مذكرة تفاهم مع مؤسسة التمويل الأفريقية Africa Finance Corporation(AFC) مذكرة تفاهم تستهدف التعاون بين الجهتين من أجل “دعم الصادرات في المملكة العربية السعودية والدول الأعضاء في مؤسسة التمويل، وكذلك تعزيز تبادل المعلومات والخبرة الفنية ومشاركة المعرفة بين المؤسستين”. وأكد مسئولون بالبنك السعودي ان المذكرة تأتي ضمن التزام البنك بتحسين العلاقات الاقتصادية والتجارية الدولية لاسيما أن المذكرة تغطي مجالات تعاون متنوعة مثل استكشاف فرص دعم المشروعات المشتركة بين الشركات في المملكة والدول الأعضاء في مؤسسة التمويل وتقديم حلول ائتمانية لدعم “الشركات والمؤسسات من جميع الأحجام والأنشطة”([5])؛ وهو ما يعني إطلاق عملية إقراض منظمة تمرر من خلالها السعودية فوائض مالية معتبرة للدول الأفريقية عبر مؤسسة التمويل، وعلى نحو يضمن في الغالب مردودات كبيرة لهذه الفوائض في العقد المقبل.
المساعدات مقابل المعادن؟
لم يخف المسؤولون السعوديون نهم بلادهم إلى استغلال موارد القارة الأفريقية المختلفة لاسيما المعدنية والزراعية؛ وكان بند الاستثمار السعودي في ثروات أفريقيا الطاقوية والمعدنية حاضرًا سواء بشكل اتفاقات ثنائية مع عدد من الدول الأفريقية (مثل زامبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتشاد)، أم عبر شراكات مع شركات متعددة الجنسيات عاملة في القارة. ويتضح ذلك في شركة أكوا باور Acwa Power (أكبر شركة قطاع خاص في مجال تحلية المياه في العالم وإحدى الشركات الكبرى في مجال الهيدروجين الأخضر، وتملك السعودية فيها عبر صندوق الاستثمار العام- صندوق الثروة السيادي للمملكة 44% منه) التي أنفقت استثمارات بقيمة 7 بليون دولار في القارة في قطاع الطاقة المتجددة حصرًا. وتستهدف الشركة تكثيف جهودها مستقبلًا في الاستثمار في الوقود الأحفوري في دول مختلفة في القارة، مع إتمام المرحلة الأولى من مشروع استثمار 15 بليون دولار في مصر في الأعوام الستة المقبلة كجزء من مضاعفة الشركة لاستثماراتها في أفريقية بمعدل أربعة أضعاف، كما عززت دعمها لمجمع ريدستون لتكثيف الطاقة الشمسية Redstone Concentrating Solar Power في جنوب أفريقيا (التي تعاني في السنوات الأخيرة من أزمة مزمنة في إنتاج الطاقة) حيث وصلت قدرته إلى إنتاج 50 ميجاوات، ويتوقع أن تصل قريبًا إلى 100 ميجاوات ([6]).
وتأتي جهود السعودية في القمة الحالية استكمالًا لمساعيها لملاحقة الإمارات في ملف الحصول على صفقات هامة في قطاع المعادن في أفريقيا. وقد نشطت السعودية بشكل ملفت منذ منتصف العام الماضي في هذا المضمار إذ عبر صندوق الاستثمار العام في يونيو 2023 عن عزمه الاستثمار في القطاع في جمهورية الكونغو الديمقراطية عبر شركة “معادن” وهي الشركة المملوكة للدولة. كما وقعت السعودية، خلال انعقاد منتدى مستقبل المعادن Future Minerals Forum (الرياض- يناير 2024)، مذكرات تفاهم في قطاع التعدين مع كل من جمهورية الكونغو الديمقراطية ومصر والمغرب. وبادرت الحكومة السعودية بعد انتهاء أعمال المنتدى بتكوين شركة “منارة للمعادن” كمشروع مشترك بين صندوق الاستثمار العام وشركة “معادن” للاستثمار في الموارد المعدنية في العالم ([7]).
وعلى سبيل المثال أكد وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح في فعاليات القمة “أن ثلث موارد العالم المعدنية توجد في أفريقيا، وأغلبها لا يزال غير مستغل (بعد)” فيما يدخل الاقتصاد العالمي مرحلة تكون فيها المعادن وقود المرحلة المقبلة من التنمية الاقتصادية.. نحن بحاجة للجمع بين المعونات التنمية والاستثمارات؛ لا نريد أن نساعد أفريقيا فحسب، بل نريد العمل معها في خلق الفرص امام المستثمرين” قبل أن يؤكد حاجة أفريقيا “لأن تساعد نفسها، وذلك يستلزم الشفافية في سياساتها”، وان المملكة ستقدم لأفريقيا التكنولوجيات الجديدة لمساعدتها في التحول، لاسيما ان القارة يمكن أن تصبح مصدرًا رئيسًا لصادرات الغذائية والزراعية في العالم..”([8]).
خلاصات
جاء عقد قمة “أفريقيا الجديدة” في سياق ترويج السعودية لدورها الأفريقي ربما بتصورات تفوق إسهامها الحقيقي ونزعة واضحة إلى انتهاج أسلوب دعائي كون القمة جاءت على هامش الدورة الثامنة “لمبادرة استثمار المستقبل” التي تستضيف فيها الرياض عدد من كبار المسئولين في الاقتصاد الدولي ومؤسسات التمويل والبنوك التي تدير مرحلة التحولات الاقتصادية الراهنة برؤى واضحة قوامها ربط المساعدات والمعونات التنموية بالحصول على امتيازات اقتصادية مباشرة في الدول المعنية، واعتبار الاستثمارات أداة هامة لفرض أجندات أو تصورات سياسية تتجاوز سيادة الدول الأفريقية بشكل كبير في ظل ما تواجهه تلك الدول من تشوهات اقتصادية غير مسبوقة.
ووضع بعض المراقبون سياسات السعودية في سياق منافساتها الإقليمية مع دول متوسطة نشطة في القارة (مثل تركيا والإمارات وروسيا)؛ لكن قراءة مدققة في فعاليات القمة الحالية تستبعد بالضرورة فكرة المنافسات الإقليمية (لاسيما مع الإمارات) لصالح تبني الرياض رؤية تقسيم العمل بشكل أشمل والاستفادة في نهاية المطاف من ديناميات هذا التقسيم على المدى البعيد.
كما يتضح من أعمال القمة توجه السعودية للعب دور المنسق الإقليمي الكبير للتكالب الدولي المقبل على الموارد المعدنية في أفريقيا، ودخول هذا المجال من بوابة أكبر الدول الأفريقية اقتصاديًا لاسيما جنوب أفريقيا ومصر.
[1] Sarah Dadouch, Electricity, minerals, youth in focus at Saudi Arabia’s Africa Summit, Yahoo Finance, October 28, 2024 https://finance.yahoo.com/news/electricity-minerals-youth-focus-saudi-101713256.html?guccounter=1&guce_referrer=aHR0cHM6Ly93d3cuYmluZy5jb20v&guce_referrer_sig=AQAAAFozoq-0lQytD-BXToktriGj0J6GvblVXFTH9do1Z6QAmzm5DWqmGmAv1u_9u34ZS3dOXAYisVNRUFtFTeZHCxTbKy6fFby0EStzW1rc1UHBL8ymsQeF19F37Vl1t_0tu2YhvkVVeolZSwAmszV_K7xcbrbqFe0hQOOmjH9Ia4WI
[2] Andrew Hammond, Saudi Arabia to invest $41bn in Africa over next decade, Arabian Gulf Business Insight, October 28, 2024 https://www.agbi.com/development/2024/10/saudi-arabia-to-invest-41bn-in-africa-over-next-decade/
[3] Tony Elumelu to co-chair New Africa Summit at 8th Saudi Arabia Future Investment Initiative, Joy Business, October 28, 2024 https://www.myjoyonline.com/tony-elumelu-to-co-chair-new-africa-summit-at-8th-saudi-arabia-future-investment-initiative/#google_vignette
[4] Jennifer Gnana, Saudi Arabia pushes for Africa debt relief as private investments set to reach $25B, Al-Monitor, October 28, 2024 https://www.al-monitor.com/originals/2024/10/saudi-arabia-pushes-africa-debt-relief-private-investments-set-reach-25b
[5] Saudi Export-Import Bank (Saudi EXIM) Bank and Africa Finance Corporation Sign Memorandum of Understanding (MoU) to Enhance Export Activities in the Middle East and Africa, Africa.Com, October 28, 2024 https://www.africa.com/saudi-export-import-bank-saudi-exim-bank-and-africa-finance-corporation-sign-memorandum-of-understanding-mou-to-enhance-export-activities-in-the-middle-east-and-africa/
[6] Jennifer Gnana, Saudi Arabia pushes for Africa debt relief as private investments set to reach $25B, Al-Monitor, October 28, 2024 https://www.al-monitor.com/originals/2024/10/saudi-arabia-pushes-africa-debt-relief-private-investments-set-reach-25b
[7] Said Bakr, Saudi Arabia’s and the UAE’s Quest for African Critical Minerals, The Arab Gulf states Institute in Washington, June 20, 2024 https://agsiw.org/saudi-arabias-and-the-uaes-quest-for-african-critical-minerals/
[8] Saudi Arabia increases investments and development aid in Africa to nearly $45 billion, Saudi Gazette, October 28, 2024 https://www.saudigazette.com.sa/article/646577/SAUDI-ARABIA/Saudi-Arabia-increases-investments-and-development-aid-in-Africa-to-nearly-$45-billion