صراع القوى الكبرى والتنافس الدولي
الصين وأمن القرن الأفريقي: جولة وانغ يي وتداعياتها الإقليمية
في تقليد صيني بات مألوفًا منذ نحو 34 عامًا توجه وزير خارجية الصين وانغ يي إلى القارة الأفريقية (13-18 يناير الجاري) في مستهل جولاته الخارجية؛ وشملت الجولة أربعة محطات هامة هي مصر وتونس وتوجو وساحل العاج حمل خلالها “يي” أجندة مكثفة كان عمادها سبل تعميق الصين مصالحها في القارة عبر نقاط الارتكاز التي توقف بها وزير الخارجية، وتقاطع مع ذلك المخاوف الصينية (والمصرية تحديدًا في هذه الجولة) المتزايدة من تطورات الأوضاع في جنوب البحر الأحمر ومجمل إقليم القرن الأفريقي في ظل ما يبدو من “إعادة تموضع” إثيوبي كامل لصالح “المعسكر الغربي” وتوجه صيني حثيث لإعادة ضبط العلاقات مع “محور موازن” يتمثل في خط مصر وإريتريا والسودان والصومال، وهي مجموعة الدول التي باتت المتضرر الأكبر من سياسات أديس أبابا في ملفات الأمن المائي، وأمن الحدود والسيادة الوطنية (إريتريا)، ومجمل مستقبل البلاد السياسي (السودان) والافتئات على السيادة الوطنية بالتعاون مع أقاليم “انفصالية” مثلما الحال في الصومال.
جولة وانغ يي الأفريقية: القرن الأفريقي على الأجندة
بدأ وانغ يي جولته الأفريقية من الباب الملكي للقارة الأفريقية: مصر، حيث تتقاطع أغلب ملفات السياسات الخارجية الصينية في القارة مع اهتمامات القاهرة ومخاوفها إزاء مشروعات التعاون الإقليمي والدولي الجاهزة والتي تميل بقوة لتهميش مصر ودورها التقليدي؛ كما يتجلى هذا التقاطع في طريق الهند- أوروبا مرورًا بدول في الخليج العربي وبميناء حيفا الإسرائيلي كبديل بري لممر الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس، ومنافس حقيقي لمبادرة الحزام والطريق الصينية. كما أن التهديدات الأمنية في البحر الأحمر ألحقت أضرارًا بالغة بمصر والصين ويمكن أن تُحدث مزيدًا من التداعيات السلبية الخطيرة حال استمرارها، إضافة إلى ملف مساعي إثيوبيا تأجير شريط ساحلي بطول 20 كم في إقليم أرض الصومال “بمميزات سيادية” غير مسبوقة في الإقليم عوضًا عن استمرار الامتياز المتوقع لمدة 50 عامًا ودلالته المستقبلية على إمكان استعانة إثيوبيا لاحقًا بخبرات إماراتية وتايوانية في تطوير “الشريط الساحلي”.
كان ملفتًا للغاية بدء وانغ يي جولته بمهاجمة “التحالفات العسكرية” والأمنية في البحر الأحمر (في إشارة مباشرة لعملية “حارس الازدهار” التي كونتها القيادة البحرية الأمريكية بالتعاون مع نحو عشرة دول حليفة) ووصفه إياها بانها “تغذي التوترات وترفع من مخاطر الأمن الإقليمي” في البحر الأحمر والشرق الأوسط قبل إشارته إلى وضع بكين أولوية “لتحقيق سلام دائم في غزة”([1])؛ ما عنى ربطًا وثيقًا بين الأزمة في فلسطين واضطراب الأوضاع المنية في جنوبي البحر الأحمر وتكثف جهود إعادة تشكيل هذه الترتيبات عبر إدخال العنصر الإثيوبي بمجمل ما يمثله من تهيئة أوضاع جيوسياسية جديدة تمامًا في الإقليم.
كما عبر وانغ يي خلال وجوده في القاهرة عن قلق الصين العميق من الزيادة الحادة في عدد الهجمات على السفن التجارية في البحر الأحمر من قبل “المتمردين الحوثيين في اليمن”، قبل أن يلفت، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقد مع نظيره المصري سامح شكري في القاهرة 14 الجاري، إلى أن مجلس الأمن بالأمم المتحدة لم يفوض إطلاقًا لأية دولة “استخدام القوة ضد اليمن” فيما عدته مصادر صينية هجومًا مباشرًا على الولايات المتحدة وحلفائها (ومن بينهم الهند الأكثر نشاطًا راهنًا بين حلفاء واشنطن في العمليات العسكرية الجارية في جنوبي البحر الأحمر على نحو يهدد النفوذ الصيني المتمركز في جيبوتي). غير أن وانغ يي عمد إلى تخفيف لهجته بالتأكيد على أنه على التحالف البحري الذي تقوده الولايات المتحدة “ويساعد في تأمين التجارة البحرية أن يتفادى تغذية نيران التوتر في البحر الأحمر”([2]).
أما في تونس، محطة وانغ يي الثانية، فقد حضر ملف التعاون الثنائي في مختلف المجالات في مقدمة أجندة الخارجية الصينية، وعلى نحو يتسق مع توجه تونس منذ العام الماضي تنويع شراكاتها الخارجية إلى جانب صلتها الأساسية مع الاتحاد الأوروبي (زار وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف تونس في نهاية العام 2023 بهدف تقوية التعاون بين البلدين في مجالات الزراعة والحبوب والطاقة والسياحة والتعاون الثقافي والعلمي وتبادل الطلاب، ووعد بزيادة إمدادات بلاده من الحبوب لتونس التي زادت وارداتها الطاقوية من روسيا في العام 2023 بمعدل ثلاثة أضعاف مقارنة بالعام 2022([3]))؛ لاسيما بعد اضطراب واضح في علاقات تونس بالاتحاد على خلفية قضايا مثيرة للجدل مثل ضبط حركة الهجرة “الأفريقية” المارة بتونس إلى شواطئ أوروبا. فيما جاءت الأوضاع في جنوبي البحر الأحمر (والقرن الأفريقي) على نحو غير مباشر ضمن اهتمامات بكين وتونس المشتركة والأشمل بتفعيل مبادرة التنمية العالمية Global Development Initiative ومبادرة الأمن العالمي Global Security Initiative ومبادرة الحضارة العالمية Global Civilization Initiative، وهي المبادرات التي لأطقتها بكين في السنوات الأخيرة لدمج مصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية مع شركائها لاسيما في القارة الأفريقية، وواصلت عبرها التقارب الوثيق مع دول شمال أفريقيا (خاصة مصر والجزائر وتونس) والتي يربطها دميعًا الاهتمام بأمن البحر الأحمر باعتباره أهم طرق الملاحة العالمية([4]).
أما زيارة وانغ يي لتوجو وكوت ديفوار فإنها كرست بشكل كبير ما يمك وصفه بالتحالف الصيني مع هاتين البلدين؛ ففي حين تطلعت توجو للاستفادة العملية من تجربة الصين من أجل تقوية التعاون في مجالات من قبيل القضاء على الفقر والزراعة والمناطق الصناعية والربط بين أجزاء البلاد والاقتصاد الرقمي وتدريب الأفراد وحماية البيئة فإن الصين نجحت إلى حد كبير في ضمن اصطفاف توجو وكوت ديفوار خلف سياساتها العامة في أفريقيا (تمثل الصين الشريك التجاري الأول لتوجو بقيمة تقترب من 2.5 بليون دولار في النصف الأول من العام الماضي 2023، وسبق أن تجاوزت صادرات الصين لتوجو في العام 2021 حاجز 3 بليون دولار)، والتي ترتبط بضمان سيولة الحركة في الممرات البحرية الهامة في أفريقيا لاسيما البحر الأحمر وخليج غينيا([5]).
مصر والصين والقرن الأفريقي: الصدمة والرعب
تزامنت زيارة وانغ يي للقاهرة مع عدة مؤشرات دالة على تغيرات حادة في مواقف القاهرة الخارجية المحتملة مستقبلًا؛ فالرئيس عبد الفتاح السيسي تعهد في سياق حملته الانتخابية نهاية العام 2023 -قبيل بدئه فترة رئاسة جديدة- باتباع “سياسة خارجية جديدة” (في إشارة غير مباشرة لسياسة أفريقية جديدة وأكثر واقعية بعد تخلف القاهرة في العديد من ملفاتها الإقليمية بفعل حسابات مرتبكة)، فيما بدأت عضوية مصر في تجمع “بريكس+” مطلع العام الجديد، ووجود خلافات واضحة بين اثنين من أهم حلفاء القاهرة الإقليميين: السعودية والإمارات في مجمل الملفات الثنائية بينهما والتي تتقاطع مع مصالح الأولى واستراتيجياتها (وربما تتناقض معها بشكل مباشر)، وتزايد التوجهات التوسعية الإثيوبية في دولة كانت في نطاق دائرة التأثير المصري في أفريقيا وهي الصومال. وقد مثلت هذه المؤشرات -وغيرها- مزيجًا من الصدمات الإقليمية المتكررة للقاهرة ورغبتها في مواجهتها، ربما اتضحت نسبيًا في بيان الخارجية المصرية إزاء الأزمة في الصومال عند طرحها أمام اجتماع جامعة الدول العربية (القاهرة 17 يناير)، والذي وضع نقاطًا هامة في رؤية مصر لإثيوبيا وتوسعاتها الإقليمية بل وتهديدها لمصالح الشعوب العربية والأفريقية، ويمكن أن ينسحب مضمون هذا البيان على مجمل المقاربة المصرية المقبلة في القرن الأفريقي والبحر الأحمر (وإن ارتبط ذلك بطبيعة الحال بقدرة القاهرة على التحرك وفق مصالحها والدول المعنية في المقام الأول مع التخلص من مشروطيات العمل الخليجية، ولاسيما الإماراتية والسعودية، التي خصمت قدرًا لا يستهان به من دور مصر الأفريقي).
بأي حال فإن أجندة الصين التي عبر عنها وانغ يي خلال جولته الأفريقية، التي انتهت 18 الجاري قبل توجهه إلى أمريكا اللاتينية، جاءت لتتشابك بمستويات مختلفة مع مخاوف القاهرة وتوجهاتها المستقبلية. وعلى سبيل المثال رصد مراقبون نجاح بكين (بالشراكة بالأساس مع القاهرة) في تكوين موقف موحد بين مصر وإريتريا والسودان والصومال لمواجهة التغيرات الحادة في الإقليم من قبل الولايات المتحدة وشركاؤها (في مقدمتهم إثيوبيا في القرن الأفريقي). وكانت الخارجية الصينية قد أعلنت في بيان قبيل الجولة أن الأخيرة تستهدف تطبيق أهداف المتابعة لما تمت التوصية به في حوار قادة الصين- أفريقيا China- Africa Leaders’ Dialogue الذي انعقد في أغسطس 2023، ومضاهاة السياسات مع الجانب الأفريقي حول منتدى التعاون الصيني الأفريقي 2024 Forum on China–Africa Cooperation (FOCAC) والدفع للأمام “الصداقة والتضامن الصيني الأفريقي التقليديين”. أما على الأرض فإن زيارة وانغ يي للقاهرة اهتمت بتعزيز الصين علاقاتها الديبلوماسية والاقتصادية والسياسية مع الدول المطلة على البحر الأحمر (وفي مقدمتها مصر). وهكذا جاءت هجمات الحوثيين على سفن مارة بالممر الملاحي بالبحر الأحمر في أجندة وانغ يي في القاهرة جنبًا إلى جنب مع مساعي بكين لتقوية دورها الوساطي في الشرق الأوسط والحرب الدائرة في غزة. ورأى محللون صينيون مطلعون أنه مع تصاعد الوضع الأمني الإقليمي فإن الصين تعمد إلى تعميق دورها عبر عدة محاور من بينها دعم قوى إقليمية مثل مصر “للعب دور أكبر في القضايا الإقليمية الساخنة مصل الصرع الفلسطيني الإسرائيلي وأزمة الملاحة في البحر الأحمر.”([6]).
ويمكن التوصل إلى صلة واضحة بين أجندة بكين واستراتيجيات القاهرة التي تشهد تحولًا حذرًا ستكشف عن ملامحه سبل تعاطيها مع التحديات المتصاعدة (بدءًا من ملف سد النهضة، مرورًا بالسودان والأوضاع في البحر الأحمر وتمدد الهيمنة الإثيوبية وصولًا إلى المدخل الجنوبي للبحر الأحمر عبر إقليم ارض الصومال). وكشفت هذه الصلة تطابق رؤيتا بكين والقاهرة تجاه السلوك الإثيوبي في “أرض الصومال”؛ لاسيما ان السيناريو المتوقع حال مضي أديس أبابا وهرجسيا عاصمة إقليم أرض الصومال في خطط تأجير الشريط الساحلي لإثيوبيا دخول موسع للشركات الإماراتية والتايوانية للاستثمار في “الشريط” وما يعنيه ذلك من تهديد المصالح الصينية مباشرة (وتكرار عكسي لتجربة نجاح الصين في إخراج شركة موانئ دبي العالمية من ميناء دوراليه في جيبوتي ما اعتبرته أبو ظبي انتكاسة في وجودها في البحر الأحمر بعد خلافات مع حكومة جيبوتي برزت في العام 2012 ولم تنته بإعلان محكمة لندن (2021) حكمًا لصالح موانئ دبي لم تعترف به شركة ميناء جيبوتي الملوكة للحكومة الجيبوتية التي أرست بالفعل في وقت سابق إدارة الميناء لشركة ماليزية وثيقة الصلة بمستثمرين صينيين وبمشروطية مرجحة لمصالح جيبوتي مقارنة بالشراكة مع موانئ دبي)، وإعادة القاهرة إلى المربع صفر في سياساتها الإقليمية بل وتأكيد خساراتها الراهنة في أكثر من ملف.
بكين والقاهرة واختبار أرض الصومال: تغيرات الجيوبوليتيك
عززت الصين في جولة وزير الخارجية وعضو المكتب السياسي باللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وانغ يي الأفريقية مفهومها عن تعاون الفوز للجميع win- win cooperation. وركزت التحليلات الصينية المكثفة للزيارة على عائداتها على الصعيد الصيني- المصري وتغيراتها المرتقبة في مجملة أوضاع الجيوبوليتيك في الشرق الأوسط والقرن الأفريقي (حيث تتطابق المصالح والمخاوف الصينية والمصرية بشكل غير مسبوق منذ عقود). وكشفت عن طبيعة هذه التغيرات مواقف بكين والقاهرة المتطابقة من خطوة إثيوبيا بإحداث اختراق في سيادة الصومال من بوابة مذكرة التفاهم بين أديس ابابا وهرجسيا التي تؤجر الأولى بمقتضاها شريطًا ساحليًا في “ارض الصومال” يمتد لمسافة نحو 20 كم وبشروط سيادية غير مسبوقة أيضًا في الاتفاقات من هذا القبيل بين دول أفريقية (ويعيد للأذهان فرضية الاستعمار الأسود الذي أرسته النخبة الحاكمة في مملكة الحبشة مع جميع مناطق ودول جوارها منذ القرن التاسع عشر).
وكان ملاحظًا أن موقف الصين تجاه الخطوة الإثيوبية لم يتوقف عند حد دعوة “الجانبين الصومالي والإثيوبي” للحوار (وهو ما رفضته مقديشو قبل تراجع أديس أبابا عن خطوتها التي انتهكت سيادة الصومال وهددت بتعميق الأزمة في إقليم القرن الأفريقي)، بل إن الصين دعمت على الفور الجهود الإقليمية التي بادرت بها إريتريا ومصر لدعم الصومال في مواجهة الأطماع الإثيوبية (كما اتضح في أجند وانغ يي في القاهرة، والتنسيق الواضح بين بكين وأسمرا في فعاليات قمة عدم الانحياز التي استضافتها العاصمة الأوغندية كمبالا في 18 يناير الجاري بالتزامن مع اختتام وانغ يي جولته الأفريقية). كما اتضح ذلك في تبني مقديشو نفس مواقف القاهرة واسمرا فيما يخص مسألة تايوان، فقد أعلنت مقديشو منتصف يناير أنها تعول بقوة على علاقاتها مع جمهورية الصين الشعبية وأن تايوان (التي تشهد حاليًا انتخابات تثير حفيظة الصين عوضًا عن كون الأولى وثيقة الصلة بأرض الصومال والمستثمر المرجح لتمويل المشروعات الإثيوبية في الشريط الساحلي المتوقع تأجيره لمدة 50 عامًا لإثيوبيا في إقليم أرض الصومال) جزء لا يتجزأ من الصين، وأكدت مقديشو، في استجابة لحظية لموقف الصين الداعم لها، بأنه ستحترم ميثاق الأمم المتحدة الذي يحظر التدخل في الشئون الداخلية للدول ذات السيادة” مؤكدة، في بيان رسمي للخارجية الصومالية، أن الصين جزء لا يتجزأ من الصين.
كما أن القاهرة واصلت تعميق التفاهم مع الصين في الملف، وربطه ببقية القضايا المثارة في إقليم البحر الأحمر والقرن الأفريقي بشكل عام؛ فالقاهرة تلاحظ بقلق شديد استمرار التدخل الخليجي السلبي في الشأن السوداني لصالح ميليشيات الدعم السريع ضمن حراك إقليمي ودولي مكثف لإعادة قائد الميليشيات محمد حمدان دقلو للمشهد السياسي السوداني (استهلته في البداية العاصمة الإثيوبية أديس أبابا مقر الاتحاد الأفريقي والتي تنتهك مؤخرًا العمود الفقري لأسس المنظمة الإقليمية)، كما تواصل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ضغوطها على النظام الإريتري بقيادة أسياس أفورقي منذ تصويته بالغ الدلالة لصالح روسيا ضد قرار أممي بإدانتها في الأزمة الروسية الأوكرانية، واتضحت هذه الضغوط في مساعي دفعه لاتخاذ مواقف مناهضة لقيادة الجيش السوداني في الأزمة السياسية بالسودان، وتهميش دور إريتريا في كافة ترتيبات الأمن الإقليمي في البحر الأحمر (ومن آخرها ما عرفت بعملية “حارس الازدهار”).
خلاصة:
تتضح من القراءة المدققة لهذه التطورات، وعلى هامش جولة وانغ يي الأفريقية، أن الصين تقود بنجاح ودأب واضحين تكوين نظام إقليمي فرعي مرحلي على الأقل (ومكون من مصر وإريتريا والسودان والصومال) لمواجهة تداعيات الأزمة في غزة وفي جنوبي البحر الأحمر وعلى سواحل أرض الصومال على دول هذا “النظام” والتي تتمتع بشراكات متنوعة وبالغة الأهمية مع بكين؛ غير أن نجاعة هذه السياسة ستظل مرهونة بقدرة دول مثل مصر على الدفاع عن مصالحها “الأفريقية” ومواجهة التهديدات التي تحيق بها من أطراف دولية وإقليمية (أبرزها إسرائيل ودولة الإمارات العربية)، وكذلك قدرة الصين على تقديم دعم حقيقي لهذه الدول ومواجهة التغيرات الحادة التي يرتقب أن تشهدها منطقة القرن الأفريقي كما اتضح من خطوة أديس أبابا بانتهاك سيادة الصومال، والتي تؤشر إلى حصولها على “ضوء أخضر” غربي رغم إدانات واشنطن وبروكسل الشكلية والتي لم ترق إلى مجاراة التهديد الإثيوبي غير المسبوق.
الوجود الروسي في النيجر
التطورات- المخاطر- الآفاق
تصاعدت تطورات الوجود الروسي في النيجر منتصف أبريل الجاري مع وصول الدفعة الاولى من المساعدات الروسية العسكرية إلى العاصمة نيامي إنفاذًا لبروتوكول التعاون العسكري بين البلدين الموقع في ديسمبر 2023، وعزز هذا التصاعد انطلاق موجة احتجاج شعبي كاسحة منددة باستمرار وجود عناصر القوات الأمريكية العاملة في النيجر باعتبارها “قوات إمبريالية” غير مرغوب في حضورها بعد إلغاء حكومة نيامي العمل بالاتفاق الموقع في العام 2012 والذي اعتبره قادة انقلاب يوليو 2023 “اتفاقًا مفروضًا على النيجر من طرف واحد”. كما كان ملفتًا في هذه الموجة الاحتجاجية صعود التأييد الشعبي الواضح لروسيا وحضورها في النيجر مما يضع مسألة “التنافس” الروسي الأمريكي (الغربي) في النيجر عند مفترق طريق بالغ الخطورة وربما تكون له تداعياته على المدى القصير في النيجر وإقليم الساحل بشكل عام. وتظل آفاق الوجود الروسي في النيجر مفتوحة على سيناريوهات متنوعة لعل أبرزها تعزيزه قدرة النيجر على المضي قدمًا في مسار إعادة بناء الدولة وتعزيز استقلال سياساتها الداخلية والخارجية بدعم شعبي واضح.
تطور الوجود الروسي في النيجر
رغم عدم وضوح تبني روسيا لاستراتيجية أفريقية محددة خارج نطاق الاستجابة للأزمات المختلفة والاشتباك مع القوى الغربية في مناطق نفوذها، فقد حاول الرئيس فلاديمير بوتين طوال العقد الأخير (على أقل تقدير) استغلال كل الوسائل الممكنة لديه لتعميق حضور بلاده في أفريقيا ومحاصرة وجود القوى الاستعمارية السابقة، ورصدت الميديا الغربية -وبشكل مكثف بعد اندلاع الحرب الروسية- الأوكرانية في العام 2022- أنشطة موسكو المكثفة لإثارة كراهية فرنسا والقوى الغربية في صفوف مواطني القارة الأفريقية لاسيما في إقليم الساحل، حسب ما رصده -مثالًا- شارل ميلون Charles Melon وزير الدفاع الفرنسي الأسبق في مقال له حول المسألة. وكشفت دراسات حديثة وجود صورة إيجابية لروسيا لدى نحو 84% من مواطني مالي، مع صعود ملموس في نسب من ينظرون لفرنسا في “الوقت الحالي” باعتبارها قوة احتلال في الساحل. وعزا مراقبون غربيون هذا التطور إلى دعاية قناة “روسيا اليوم الفرنسية” التي ساهمت بشكل مباشر في فشل عملية برخان Operation Barkhane مع تقديم القناة مواد دعائية برهنت من وجهة نظرها على تشجيع فرنسا “للأنشطة الجهادية” في أفريقيا. كما عززت روسيا صورتها لدى الأفارقة بدفاعها عن القيم الاجتماعية والأسرية التقليدية ([i]) وهي الصورة النمطية التي انتقلت سريعًا لجميع دول الساحل الأفريقي وهيأت التربة لرفض قاطع للوجود العسكري والأمني الغربي الأقرب للممارسات الاستعمارية التقليدية.
وقد قامت العلاقات بين روسيا والعديد من دول الساحل خلال الحرب الباردة والعهد الاستعماري في تلك الدول. وكان من عوامل التقارب الروسي مع الأخيرة ازدواجية المقاربة الغربية تجاهها من قبيل التأكيد على ملفات حقوق الإنسان (لاسيما خلال عمليات مواجهة الإرهاب) والإصلاحات الديمقراطية فيما كرست الدول الغربية نفسها جهودها لدعم النظم الاستبدادية وسياساتها التي تنكل بالمواطنين ومطالبهم بتحولات ديمقراطية حقيقية (كما في مالي والنيجر)، إلى جانب توفر أدلة على تورط فرنسا وعدد من الدول الغربية في أنشطة تدعم بشكل مباشر وغير مباشر أنشطة جماعات إرهابية مختلفة بالمخالفة للتوجهات المعلنة لتلك الدول. كما عزز إقدام روسيا على خوض الحرب في أوكرانيا من حرص الأولى على تعميق علاقاتها مع دول الساحل منذ العام 2022 بل وإقامة علاقات تحالف مع هذه الدول (لاسيما مالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد). وقد حذرت روسيا صراحة من أي تدخل عسكري في النيجر عقب الانقلاب الذي شهدته منتصف العام 2023 الأمر الذي جعل روسيا حليفًا موثوقًا للسلطات الجديدة في نيامي منذ إلغاء تلك السلطات الاتفاقات الدفاعية مع فرنسا والاتحاد الأوروبي ([ii]) ثم الولايات المتحدة.
وفي حالة النيجر فإنه يمكن القول إن بداية تطور الوجود الروسي في هذه الدولة الأفريقية -المصنفة ضمن أفقر دول العالم- بشكل ملموس للغاية ترجع لنهاية العام 2023 بلقاء نائب وزير الدفاع الروسي يونس- بيك يافكوروف Yunus-Bek Yevkurov مع الجنرال عبد الرحمن تشياني رئيس المجلس العسكري الحاكم في نيامي (4 ديسمبر) الذي وضع أسسًا واضحة لتقوية العلاقات بين البلدين وتوقيع موسكو ونيامي بروتوكولًا هامًا (لاحظ وزير الدفاع الفرنسي السابق شارل ميلون أنه تضمن بنودًا اتسمت بالسرية حتى الآن)، ثم بلقاء يافكوروف مع نظيره النيجري الجنرال ساليفو مودي Salifou Mody ([iii]).
موسكو وواشنطن في النيجر: وجهًا لوجه
عكست القائمة المتناقضة من زائري نيامي منذ نهاية العام 2023 (من روسيا والصين وألمانيا والولايات المتحدة وغيرها) نمو التحدي الأمني الذي يواجه الدول الغربية في إقليم الساحل بشكل عام، لاسيما أن روسيا باتت تحقق نفوذًا متناميًا في النيجر ودول جواره وبشكل ملحوظ للغاية بعد التوتر الأمريكي- النيجري الخطير الذي وقع في مارس 2024 عقب زيارة الوفد الأمريكي رفيع المستوى بقيادة مساعدة وزير الخارجية للشئون الأفريقي مولي في، وكليستي والاندر Celeste Wallander من البنتاجون والجنرال مايكل لانجلي والتي عدتها القيادة النيجرية اعتداءً على سيادة البلاد واستقلالها. كما يلاحظ أن تلك الزيارة قد ميزت بشكل قاطع تراجع الخطط الأمريكية بعقد محادثات “آمنة” حول مستقبل القاعدتين العسكريتين الأمريكيتين رغم تمديد الوفد الأمريكي مدة زيارته لنيامي، وما تبين بعدها من عدم وجود قنوات اتصال نيجرية- أمريكية بخصوص هذا الملف إذ علمت واشنطن بعد عودة وفدها بيومين من نيامي بإنهاء الاتفاق الثنائي الموقع في العام 2012 من “منشور على الفيسبوك”([iv]) مقابل المأسسة الواضحة للتفاهم الروسي النيجري وعلى مستويات ديبلوماسية رفيعة.
وفي بلورة لطبيعة المنافسة الأمريكية- الروسية اعتبرت الميديا والأكاديميا والمراكز البحثية الغربية أن جهود موسكو لتوطيد علاقاتها مع دول الساحل -ولاسيما النيجر في الآونة الأخيرة- جهدًا منصبًا بكامله في مساعي “ملء الفراغ” الذي خلفه الغرب ورائه في الإقليم، وهو التوجه الذي تعزز بشكل متسارع للغاية منذ استقبال الجنرال ساليفو مودي ، وزير دفاع النيجر، لنائب وزير الدفاع الروسي الجنرال يونس- بيك يافكوروف في نيامي في ديسمبر الماضي، ولم يحل دون هذا تسارع هذا المسار محاولة وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس Boris Pistorius الضغط في اتجاه معاكس بلقائه مودي بعد زيارة يافكوروف لنيامي بأسبوعين فقط ([v]).
ومثل تجمع آلاف المحتجون النيجريون في العاصمة نيامي (13 أبريل) للمطالبة بسحب عناصر القوات المسلحة الأمريكية المتمركزة في بلادهم بعد ساعات قليلة من إرسال روسيا معدات وعناصر عسكرية روسية (11 أبريل) لدعم جيش النيجر بلورة واضحة للتنافس الأمريكي الروسي في النيجر وحقيقة عدم اقتصاره على ممارسات ديبلوماسية موروثة من “الحرب الباردة” بل امتداده على الأرض في صفوف مواطني النيجر؛ إذ اتسقت مظاهرات النيجر الأخيرة المناهضة للوجود العسكري الأمريكي في البلاد مع سلسلة من المظاهرات والاحتجاجات المنتظمة في دول مختلفة في غرب أفريقيا لاسيما في الدول التي شهدت انقلابات عسكرية والتي دعت بالأساس إلى قطع الصلات مع الدول الغربية في السنوات الأخيرة واتجهت الحكومات العسكرية على نحو ملفت نحو روسيا للحصول على دعمها في مواجهة الجماعات المتطرفة في تلك المناطق ([vi]).
حدود دور روسيا العسكري والأمني في النيجر
وفيما يتعلق بالمواجهة الأمريكية الروسية أفريقيًا، يظل البند الرئيس في دور روسيا العسكري والأمني في النيجر، أو ما سيعرف لاحقًا بالشراكة الاستراتيجية بينهما، متمثلًا في تعهد روسيا بزيادة “الاستعداد القتالي” لجيش النيجر (إلى جانب التعهد بدعم اقتصاد النيجر في قطاعي الزراعة والطاقة) ([vii])، وهو تعهد عجزت عن الوفاء به مجموعة الدول الغربية المنخرطة في ترتيبات الأمن في إقليم الساحل رغم صلاحياتها المطلقة في العمل به طوال أكثر من عقد كامل بما في ذلك القيام بعمليات عسكرية موسعة وهجومية الطابع.
بأي حال، كان تعليق الولايات المتحدة لتعاونها العسكري مع جيش النيجر في صيف 2023 مفاده بقاء المسيرات الأمريكية دون أية عمليات طيران حتى توجيه حكومة نيامي في مارس الماضي أوامرها للقوات الأمريكية بمغادرة البلاد وإعلانها أن وجود تلك القوات بات “غير قانوني”. ورغم ذلك الموقف الحاسم من حكومة نيامي فإن الخارجية الأمريكية نحت إلى التقليل من شأن هذه التطورات معلنة استمرار مناقشاتها مع السلطات في النيجر بشأن “وجودها العسكري وتعاونها” مع جيش النيجر، ربما املًا في تحقيق ضغوط واشنطن ثمارها بتحقيق خطوة تراجع نيامي عن موقفها. غير أن الوصول “المباغت” لقرابة 100 خبير روسي برفقة نظام دفاع جوي إلى النيجر قبيل منتصف أبريل الجاري عَني أن هذا التعاون الأمريكي- النيجري بات غامضًا تمامًا حتى على المدى القصير. ويعزز هذا التحليل أن هذه الدفعة من القوات الروسية تمثل – وفقًا لريا نوفوستي Ria Novosti، وهي منفذ إعلامي روسي مملوك للدولة- جزءًا من “فيالق أفريقيا” Africa Corps الروسية التي تعد عمليًا بناءً من القوات شبه العسكرية التي ستحل على نحو متوقع محل مجموعة فاغنر ([viii]).
وقد وصل “المدربون” العسكريون الروس إلى نيامي بهدف محدد وهو تعزيز دفاعات النيجر الجوية فيما تدفع الأولى جديًا -وعلى المستويين الرسمي والشعبي- إلى قطع الصلات تمامًا مع الجيش الأمريكي وقواته العاملة في البلاد في ملف مواجهة الإرهاب مما يعني تمدد حدود التعاون العسكري والأمني مع روسيا. وفي خطوة كاشفة عن مدى جدية هذا التصور أذاع التليفزيون الوطني (11 أبريل) لقطات لوصول القوات الروسية على متن طائرة حربية محملة بمعدات عسكرية. ونقل عن عناصر من هذه القوات قولها “بفرنسية سليمة” أنهم حضروا لتدريب جيش النيجر على استخدام المعدات العسكرية (المحملة على متن نفس الطائرة، وليس القيام بعمليات منفصلة عن قيادة الجيش النيجري) والعمل على تطوير التعاون العسكري بين روسيا والنيجر. كما شكل وصول تلك القوات تعقيدًا لموقف القوات الأمريكية (وكذلك البعثة الديبلوماسية الأمريكية في النيجر) وألقى مزيدًا من الشكوك حول مستقبل عمليات مكافحة الإرهاب المشتركة بين الولايات المتحدة والنيجر ([ix]).
وهكذا، فإنه فيما تدخل روسيا في المشهد النيجري من “الباب التقليدي”: مساعدة نيامي في مكافحة الإرهاب، وهي مقاربة تجد مقبولية كبيرة للغاية إذا أخذ في الاعتبار تعرض موسكو في مارس الماضي لهجمة إرهابية خطيرة يجعلها تقف في نفس صف “الجملة العالمية” على الإرهاب، فإن موسكو كسبت نقاطًا مجانية بسرعة فائقة في منافسة الحضور الأمريكي والفرنسي في الإقليم وفي النيجر بتوظيف نفس “الخطاب” الذي مررت من خلاله فرنسا والولايات المتحدة -بديناميات مغايرة- أسباب حضورها العسكري في غرب أفريقيا بشكل عام وفي دول الساحل التي شهدت انقلابات عسكرية في الأعوام الأخيرة على وجه الخصوص. ويضاف إلى ذلك أن المقاربة الروسية باتت تستند بشكل متزايد إلى الخلل في انتقال وجود واشنطن في الساحل من مرحلة “الحرب على الإرهاب” إلى “تنافس القوى الكبرى” والانشغال بالتنافس الاستراتيجي مع الصين وروسيا والخصم من أوراق الضغط الأمريكية التقليدية (العمل على مواجهة الإرهاب) لاصطفاف بكين وموسكو خلف استراتيجية الحرب على الإرهاب لاسيما ضد القاعدة والمجموعات المسلحة التابعة “لداعش”([x]).
كما يلاحظ أهمية خطوة روسيا عسكريًا وأمنيًا في ضوء حقيقة أن نشر 100 عنصر من عناصر “فيالق أفريقيا” في النيجر منتصف أبريل الجاري قد جاء استكمالًا لعملية مماثلة شهدتها بوركينا فاسو في يناير 2024([xi])، وهو ما يكشف بدورها عن استراتيجية روسية واضحة بتمدد نشر قوات فيالق أفريقيا المصحوبة بمعدات ونظم دفاع روسية متطورة للغاية تتجاوز في أهميتها أنشطة مجموعة فاغنر وترقى إلى مستوى تعاون عسكري مؤسساتي متكامل وبعيد المدى وليست مجرد عمليات إسناد تكتيكية.
قراءة في رؤية نيامي للتعاون مع روسيا: المصالح والمخاطر
يبدو أن المجلس العسكري الحاكم في النيجر، والذي تدربت أعداد منه في الولايات المتحدة الأمريكية، كان مترقبًا -منذ ساعات حكمه الأولى- لحلول فرصة طرد القوات الأمريكية من البلاد ودفع التقارب مع موسكو لمستويات جديدة تشمل الدعم (أو التدخل) المباشر وغير المباشر من قبل روسيا للنيجر في مواجهة مشكلاتها الداخلية المزمنة. كما ادعت تقارير غربية مكثفة سعي المجلس للحصول على مساعدات ضخمة من مجموعة فاغنر الروسية خلال الأزمة المحتدمة بين نيامي و”إيكواس” التي هددت بالتدخل العسكري في النيجر في النصف الثاني من العام 2023. كما يلاحظ تحمس فاغنر الواضح تجاه انقلاب يوليو 2023 مقابل تأنٍ واضح في موقف الخارجية الروسية الداعم للانقلاب على نحو تدريجي ([xii]).
وقد ضمت المظاهرات الأخيرة المنددة بالوجود العسكري الأمريكي قطاعات متنوعة من الشعب النيجري في مقدمتها الحركة الطلابية وقياداتها، وبرز خلال هذه المظاهرات تأكيدات شخصيات بارزة على تصريحات المجلس العسكري التي أعلنها عقب انقلاب يوليو 2023 بأن اتفاق التعاون العسكري “الأمريكي- النيجري” قد تم فرضه احاديًا من قبل واشنطن. كما لوحظ تطور وعي متزايد باعتبار الوجود الأمريكي شكلًا من اشكال “الإمبريالية” المتجاوزة لفكرة الاستعمار التقليدي، وضرورة طرد القوات الأمريكية على النحو الذي تم مع القوات الفرنسية نهاية العام 2023 ([xiii]).
وفيما يتعلق باستجابة النيجر تجاه المقاربة الروسية فإنه من الواضح أن النيجر تعتبر تلك المقاربة مسألة حيوية للغاية لدعم النظام الحالي وخياراته في مواجهة متغيرات إقليمية ودولية متصاعدة، بل ومحاولات عدد من دول الإقليم الانقضاض الكامل على النظام في نيامي وفرض عودة الرئيس المخلوع محمد بازوم رغم المعارضة الشعبية المتصاعدة لمثل هذه الخطوة. لكن تبدو موارد روسيا محدودة قياسًا لمواقفها الرسمية المعلنة في دعم دول الساحل ومن بينها النيجر، أخذًا في الاعتبار تطورات الأزمة في أوكرانيا ومواجهة روسيا نفسها تهديدات إرهابية غير مسبوقة داخل أراضيها. وتظل قدرة موسكو على ضم النيجر لمعسكرها محكومة باعتبارات أخرى ([xiv]) تتجاوز عناصر “فيالق أفريقيا” المائة الذين وصلوا نيامي بالفعل.
لكن إلى جانب ما توفره سياسة روسيا تجاه النيجر والتقارب بينهما من فرص لنيامي واستدامة نظام تشياني، فإنه ثمة مخاطر عدة تهدد هذا التقارب أو تنجم عنه ويمكن رصدها على النحو التالي:
- يمكن ملاحظة أن روسيا -كما فرنسا والولايات المتحدة- لا تملك (حتى الآن في واقع الأمر) سياسة محددة لمعالجة التداعيات الإنسانية والاقتصادية والأمنية لمغادرة فرنسا إقليم الساحل الأمر الذي يفسر تركيز الروس على الجانب الأيديولوجي لكسب أرضية نفوذ في الإقليم على نحو متسارع للغاية. كما يشير خبراء غربيون إلى عدم امتلاك روسيا استراتيجية واضحة في النيجر وأنها تكتفي بالاستجابة الانتهازية للأحداث على الأرض. وفيما تمتعت موسكو بنجاح أكبر من الولايات المتحدة في مجال “تصدير الأمن” فإنها تفتقر إلى خبرة وقدرات ملموسة في المجال الإنساني. وحسب خبراء روس معنيون بإقليم الساحل فإن موسكو لا تزال تنظر للإقليم من منظار “فيالق أفريقيا” Africa corps حيث يمكن لموسكو تقوية هذه الصلة والتوسع فيها وإعادة توجيهها. ثم توظيف بعض جوانب “القوة الناعمة” ثم المرحلة الحاسمة في استمرار الوجود الروسي والتي تتطلب علاقات متوازنة ومتعددة الأوجه تتطلب وقتًا ومالًا وجهدًا ([xv]).
- ثمة تخوفات حقيقية من استغلال الجماعات الإرهابية لهذه التقلبات الجيوسياسية الواضحة للقيام بإعادة تنشيط لعملياتها في النيجر بشكل غير مسبوق، وربما استغلال الأراضي النيجرية نفسها للقيام بعمليات خارج حدودها ([xvi]) لاسيما جنوبًا نحو دول خليج غينيا. وثمة شواهد على هذا المسار المستقبلي المتوقع تمثلت في زيادة “داعش فرع إقليم الساحل” أنشطته في الإقليم عقب إنهاء فرنسا وجودها العسكري في الإقليم الذي استمر عقدًا لمواجهة الإرهاب. كما ان توجه قادة النيجر لقطع صلاتهم بالولايات المتحدة والتقارب مع روسيا سيوجه ضربة قاصمة لتحالف دول الساحل مع افتقار شراكاتها الأمنية (بما في ذلك عند منطقة حدود مالي وبوركينا فاسو والنيجر) لموارد جوية هامة مما سيزيد من تعقيد عمليات مواجهة الإرهاب (مع ملاحظة تقارير مصرع 23 جنديًا نيجيريًا في عملية إرهابية خطيرة في المثلث الحدودي المذكور بعد أسبوع واحد فقط من إعلان نيامي وقف تعاونها العسكري مع واشنطن) ([xvii]).
- ومن بين هذه المخاطر هشاشة الوضع الاقتصادي في النيجر بشكل كبير؛ لاسيما مع الضرر البالغ الذي لحق بهذا الاقتصادي جراء عقوبات “إيكواس” منذ وقوع الانقلاب العسكري في يوليو 2023، وعدم تبلور النتائج الإيجابية لتحالف دول الساحل Alliance of Sahel States الذي تكون في سبتمبر 2023 من النيجر وبوركينا فاسو ومالي ردًا على قرار إيكواس تعليق عضوية هذه الدول. أخذًا في الاعتبار عدم اتضاح مدى جدوى سعي “التحالف” لإصدار عملة جديدة تحل محل الفرنك الأفريقي وهي مسألة مرهونة برؤية دول التحالف للتصرف في مخزوناتها من الذهب ([xviii])؛ إما بالتعامل به كعملة أو استخدامه لدعم مشروع العملة المقترح على المدى المتوسط أو البعيد).
- كما لا يجب تفويت ملاحظة أن هذه التطورات لم تعن دعمًا شعبيًا كاملًا للوجود الروسي المرتقب إذ عبرت بعض قيادات الحراك الشعبي المناهض للوجود الفرنسي والغربي عن تحفظها على أي تطبيق محتمل لاتفاقات لإقامة قواعد عسكرية روسية في النيجر، ومن أبرز هذه الانتقادات ما وجهه عبد الله سيدو، المنسق المشارك لتحالف M62 المكون من مجموعات المجتمع المدني الذي قاد الاحتجاجات المناهضة للفرنسيين. كما عبر نيجريون عن تخوفهم من تحول التعاون العسكري الروسي النيجري على المدى البعيد إلى تكرار تجربة الوجود العسكري الغربي الموصوف باحتلال أجزاء كبيرة من البلاد على خلفية “مواجهة الجماعات الإرهابية”([xix]).
التداعيات الإقليمية والدولية: إيكواس والصين على خط الأزمة
عبرت مظاهرات السبت 13 أبريل وما تلتها عن تصاعد غضب شعبي جارف ضد الوجود الغربي والأمريكي بالتزامن مع تعمق شعبية روسيا وسياساتها الأفريقية في صفوف الشعب النيجري وكذلك في مقبوليتها للقيام بأدوار مختلفة وتعزيز التعاون مع النيجر. كما وصف المراقبون المظاهرات الأخيرة بانها تكرار واضح للمظاهرات التي استهدفت الوجود العسكري الفرنسي في النيجر في العام الماضي. كما ان المظاهرات تعد تأييدًا شعبيًا عمليًا لقرارات المجلس العسكري في نيامي بخصوص الوجود الأمريكي الصادرة في مارس 2024، ورأى عام برفض الوجود العسكري الأمريكي على الأرض النيجرية وليس مجرد غلق قاعدة المسيرات العسكرية الأمريكية. ومثلت تلك التطورات دعمًا لنظام إقليمي آخذ في التشكل وقوامه وحدة توجهات سياسات مالي وبوركينا فاسو والنيجر الخارجية في ملفات إنهاء الاتفاقات العسكرية مع الحلفاء الغربيين وتهميش دور الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “إيكواس” وتعزيز صلات أوثق مع روسيا ([xx]).
ويبدو أن تداعيات هذا التقارب قد وجدت سبيلها إلى مجمل منظومة العمل الجماعي الإقليمي في غرب أفريقيا مع تراجع واضح في موقف “الإيكواس” من التطورات في النيجر والعقوبات التي سبق فرضها عليها؛ إذ تزامن مع وصول “القوات الروسية” إلى نيامي توقيع الأخيرة مع بنك إيكواس للاستثمار والتنمية ECOWAS Bank for Investment and Development مذكرة تفاهم بتأمين قروض لنيامي بقيمة 114 مليون دولار (أكثر من خُمس حجم المساعدات الأمريكية المحجوبة عن نيامي منذ يوليو 2023)؛ وهي المذكرة التي تم وضع لمساتها الأخيرة خلال منتدى إيكواس للاستثمار ECOWAS Investment Forum (EIF) المنعقد في العاصمة التوجولية لومي وشملت المشروعات التي تغطيها تلك القروض مشروعات بنية أساسية (من بينها ازدواج طريق مادالا- سوليجا- ماجي البري بقيمة 30 مليون دولار، وتخصيص موازنة بقيمة 40 مليون دولار لتحويل مقر الأمانة السابقة لإيكواس في نيامي إلى مدرسة للعلوم الطبية والصحية)([xxi]).
أما الصين فإنها حققت في خضم الأزمة الجارية اختراقًا اقتصاديًا مهمًا في النيجر بتوقيعها مع نيامي (12 أبريل الجاري) مذكرة تفاهم بقيمة 400 مليون دولار لبيع البترول الخام من حقل أغاديم Agadem عبر إنشاء خط لأنابيب البترول قامت به شركة بتروتشاينا PetroChina التابعة لهيئة البترول الوطنية الصينية China National Petroleum Corp (CNPC) (والذي تم إطلاقه رسميًا في نوفمبر 2023). وتم توقيع مذكرة التفاهم وسط حفاوة نيجرية واضحة بحضور رئيس الوزراء ووزير الاقتصاد والاستثمار علي لامين الذي وصف الصين بالصديق العظيم للنيجر ([xxii]).
وهكذا يبدو أن تعمق العلاقات الروسية- النيجرية سيكون من عوامل نجاح نيامي في الخروج من ربقة الارتباط بفرنسا (والولايات المتحدة عسكريًا وامنيًا على الأقل) والانفتاح على علاقات إقليمية ودولية أكثر توازنًا ونفعًا للدولة النيجرية ومشروعات نظام تشياني الساعية فعادة بناء اقتصاد البلاد وترتيبات المن والنظام بها بشكل غير مسبوق منذ عقود.
خلاصة:
ينطلق الوجود الروسي في القارة الأفريقية بخطوات سريعة كما يتضح في حالة النيجر الراهنة (وما يماثلها مرحليًا بحالة تشاد) ومن باب مواجهة الإرهاب وتعميق التعاون الثنائي مع واحدة من أفقر دول العالم قاطبة. وفي ظل مخاوف من ردود فعل انتقامية من قبل فرنسا والولايات المتحدة وعدد من دول غرب أفريقيا التي تحذو حذو البلدين الغربيين فإن النيجر تتعجل تعميق علاقاتها مع روسيا (والصين وإيران وغيرهما) من أجل إقامة حائط صد منيع قدر الإمكان ضد هذه الردود الانتقامية المتوقعة، وكذلك للمساعدة في مواجهة التهديدات المصيرية والزمنة التي تواجه النيجر منذ عقود مثل الإرهاب والفقر والتغيرات المناخية والاستغلال غير المقبول لموارد البلاد لصالح فئة محدودة للغاية.
[i] Charles Millon, Russia will unleash chaos in the Sahel, Geopolitical Intelligence Services AG (GIS), March 29, 2024 https://www.gisreportsonline.com/r/russia-africa-propaganda/
[ii] Olayinka Ajala, Scramble for the Sahel – why France, Russia, China and the United States are interested in the region, The Conversation, January 8, 2024 https://theconversation.com/scramble-for-the-sahel-why-france-russia-china-and-the-united-states-are-interested-in-the-region-219130
[iii] Charles Melon, Niger breaks from France and embraces Russia, Geopolitical Intelligence Services AG (GIS), March 1, 2024 https://www.gisreportsonline.com/r/niger-france-russia/
[iv] Sylvie Kauffmann, Russia is filling the vacuum left by the west in the Sahel, Financial Times, April 10, 2024 https://www.ft.com/content/f9fd4d44-fb63-40c1-8280-a1a685c63396
[v] Ibid.
[vi] Elian Peltier, Protesters in Niger Call for U.S. Military Exit as Russian Force Arrives, The New York Times, April 13, 2024 https://www.nytimes.com/2024/04/13/world/africa/niger-us-military-russia.html
[vii] Olayinka Ajala, Niger and Russia are forming military ties: 3 ways this could upset old allies, The Conversation, January 29, 2024 https://theconversation.com/niger-and-russia-are-forming-military-ties-3-ways-this-could-upset-old-allies-221696
[viii] Elian Peltier, Protesters in Niger Call for U.S. Military Exit as Russian Force Arrives, Op. Cit.
[ix] Russian military trainers arrive in Niger as African country pulls away from US, the Guardian, April 12, 2024 https://www.theguardian.com/world/2024/apr/12/russian-military-trainers-niger
[x] John Lechner and Sergey Eledinoc , What Washington got wrong about Niger and Russia, Responsible Statecraft, April 11, 2024 https://responsiblestatecraft.org/us-niger-russia/
[xi] Raphael Parens et al, Niger’s Pivot to Moscow: What’s Next for US Engagement in Africa, Foreign Policy Research Institute, April 5, 2024 https://www.fpri.org/article/2024/04/nigers-pivot-to-moscow-whats-next-for-us-engagement-in-africa/
[xii] Ibid.
[xiii] Agence France Presse, Thousands Protest in Niger for US Troops To Leave, Barron’s, April 13, 2024 https://www.barrons.com/news/thousands-protest-in-niger-for-us-troops-to-leave-8a3de131
[xiv] Raphael Parens et al, Niger’s Pivot to Moscow: What’s Next for US Engagement in Africa, Op. cit.
[xv] John Lechner and Sergey Eledinoc , What Washington got wrong about Niger and Russia, Op. Cit.
[xvi] Raphael Parens et al, Niger’s Pivot to Moscow: What’s Next for US Engagement in Africa, Op. Cit.
[xvii] Ibid.
[xviii] Charles Melon, Niger breaks from France and embraces Russia, Geopolitical Intelligence Services AG (GIS), March 1, 2024 https://www.gisreportsonline.com/r/niger-france-russia/
[xix] AAP Newswire, Hundreds rally in Niger to urge US military departure, Shepparton News, April 14, 2024 https://www.sheppnews.com.au/world/hundreds-rally-in-niger-to-urge-us-military-departure/
[xx] Ibid.
[xxi] Niger Secures $114m Loan from ECOWAS Bank, Weekly Trust, April 13, 2024 https://www.msn.com/en-xl/news/other/niger-secures-114m-loan-from-ecowas-bank/ar-BB1lyyHf
[xxii] Niger and China sign crude oil MoU worth USD 400 mn, ET Auto, April 14, 2024
https://auto.economictimes.indiatimes.com/news/oil-and-lubes/niger-and-china-sign-crude-oil-mou-worth-usd-400-mn/109288005
[1] Jevans Nyabiage, Israel-Gaza war: China FM Wang Yi opens Africa tour with jab at US-led strikes on Houthi in Yemen, South China Morning Post, January 15, 2024 https://www.msn.com/en-xl/news/other/israel-gaza-war-china-fm-wang-yi-opens-africa-tour-with-jab-at-us-led-strikes-on-houthi-in-yemen/ar-AA1mYGLu
[2] Ibid.
[3] In Tunisia, the desire for rapprochement with China, Daily News, January 16, 2024 https://www.dailynewsen.com/breaking/in-tunisia-the-desire-for-rapprochement-with-china-h128778.html
[4] China, Africa vow continued communication, enhanced cooperation, ECNS.CN, January 19, 2024 https://www.ecns.cn/news/politics/2024-01-19/detail-ihcwvwfu7683991.shtml
[5] Hannan Hussain, Wang’s Africa tour firmly cements win-win cooperation, CGTN, January 19, 2024 https://news.cgtn.com/news/2024-01-19/Wang-s-Africa-tour-firmly-cements-win-win-cooperation-1qulNe7KfAc/p.html
[6] Jevans Nyabiage, Red Sea attacks, Horn of Africa issues and war in Gaza set to dominate discussions during Wang Yi’s African trip, South China Morning Post, January 13, 2024 https://www.scmp.com/news/china/diplomacy/article/3248246/red-sea-attacks-horn-africa-issues-and-war-gaza-set-dominate-discussions-during-wang-yis-african