المخابرات والتحريات الأمنية
تداعيات هجمات الحوثيين على
أمن البحر الأحمر
باتت معركة أمن البحر الأحمر مفتوحة بين الولايات المتحدة وإيران، التي تعتبر على لسان الحوثيين أن الوجود الأميركي في البحر الأحمر غير مشروع، وهو لسان حال الفصائل العراقية عن التواجد الأمريكي في العراق وكذلك في سوريا. ومن أهم أسباب حدوث هذه الهجمات في البحر الأحمر والعراق وسوريا والأردن ، هو إيمان إيران بأنه توجد فرصة في هذا العام 2024 لتحقيق هدفها الطويل الأمد، المتمثل بطرد الولايات المتحدة من المنطقة، لانهم يدركون أن أدارة بايدن تناقش المدة التي يجب أن يبقوا فيها في سوريا والعراق. وعلى مايبد و أن إحتمالية الانسحاب قد تضاءلت لأدنى مستوى بعد البدء بالهجمات، فقبل الهجمات كان هناك احتمال المضي في مسار سحب القوات الأميركية من سوريا أو العراق، فإن لكن إستراتيجية إيران قد فشلت بعد مقتل 3 أميركيين.
منذ منتصف نوفمبر/تشرين الثاني، نفذت أنصار الله الحوثية، عشرات الهجمات على سفن دولية وتجارية في البحر الأحمر والتي يمرّ عبرها (12%) من التجارة العالمية، ولا مؤشر على انتهاء هذه الهجمات حتى اللحظه. التي عطلت حركة الملاحة العالمية وعمقت المخاوف من أن تؤدي تداعيات الحرب بين إسرائيل وحماس إلى زعزعة استقرار الشرق الأوسط.
أظهر الحوثيون منذ سنوات أنهم قوة يمكنها مواجهة جيش دولة (المملكة العربية السعودية). وتطورت هذه القدرات بفضل الدعم الإيراني، من جماعة صغيرة إلى قوة قتالية مدربة ومزودة بمعدات حديثة، بما في ذلك المروحيات والصواريخ والطائرات المسيرة بدون طيار. ثم انتقل الحوثيون من شن هجمات عبر الحدود على السعودية والإمارات، إلى تعطيل حركة الشحن في البحر الأحمر، وباتوا يشكلون تهديدا لسلاسل التوريد العالمية، ما ينذر برفع معدلات التضخم. ومن أجل تخفيف الضغط على جبهة جنوب البحر الأحمر، وبعد أن نُشرت السفن الحربية والغواصات التابعة للتحالف الدولي، يرجح أن يبادر الحوثيون إلى توسيع رقعة عملياتهم إلى بحر العرب.
لا تزال جماعة الحوثي تتحكم بباب الحديدة وباب المندب، وهذا يجعلها مهيمنه على البحر الأحمر وذات نفوذ واسع بحكم موقع اليمن الاستراتيجي المحيط بأكثر من 19 ميناء. (1)
إيران ودعم الحوثيين عسكريا واستخباراتيا
تسيطر البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني على جزيرة “فارور”، واستعملت لـ”تدريب جماعة الحوثي”. تلقى (200) عضو من الجماعة تدريبات في إيران على يد الحرس الثوري في أكاديمية “خامنئي” للعلوم والتكنولوجيا البحرية في منطقة “زيباكنار” الساحلية، واستمرت لنحو (6) أشهر تحت قيادة فيلق القدس التابع للحرس الثوري. كما قدم قادة ومستشارون من الحرس الثوري الإيراني أيضا دعما من البيانات والمعلومات الاستخباراتية لجماعة الحوثي لتحديد أي
من عشرات السفن التي تمر عبر البحر الأحمر. قدمت سفن المراقبة الإيرانية في البحر الأحمر معلومات التتبع التي جمعتها، وتم تسليمها إلى الحوثيين، الذين استخدموها لمهاجمة السفن التجارية التي تمر عبر مضيق باب المندب، من خلال تقديم إحداثيات للطائرات دون طيار والصواريخ الحوثية لاستهداف السفن بدقة. (2)
حجم التهديد الحوثي للسفن
لدى جماعة أنصار الله الحوثي قدرات عسكرية مكنتها من مهاجمة السفن التجارية والعسكرية في مياه البحرالأحمر. مدعوما بجهد استخباري إيراني ، ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها من اتخاذ ردود فعل تجاه جماعة الحوثي، وسط مخاوف من توسيع وتيرة الصراع في منطقة الشرق الأوسط. كما وصلت التوترات في البحر الأحمر إلى أسواق الغاز الطبيعي لاسيما السفن الناقلة للغاز المسال.
الانتشار والسيطرة
تسيطر انصار الله حاليا على نحو ربع مساحة اليمن، على العاصمة صنعاء ومناطق “البيضاء وإب وعمران والحديدة وذمار وصعدة وريمة والمحويت”، وتعد السلسلة الجبلية الوسطى الممتدة من صعدة إلى عمران وصنعاء وذمار وإب مخازن استراتيجية، بينما محافظات حجة والمحويت وريمة فهي مخازن تكتيكية للصواريخ. وتشكل المناطق الساحلية في حجة والحديدة والمرتفعات في تعز وصعدة وصحراء الجوف مراكز إطلاق للصواريخ. وتشير التقارير الاستخباراتية في 17 يناير 2024 أن هناك (4) مراكز جديدة فعلها الحوثيون لإطلاق الصواريخ، المركز الأول إطلاق الصواريخ باتجاه البحر الأحمر غربا وشمالا، المركز الثاني إطلاق الصواريخ باتجاه خليج عدن، المركز الثالث اتجاه باب المندب جنوب البحر الأحمر، المركز الرابع مديرية الحزم بمحافظة الجوف. (3)
القدرات االباليستية
شهدت الهجمات الحوثية على السفن في البحر الأحمر استخدام الحوثيين لصواريخ كروز مضادة للسفن يتراوح مداها بين(80 – 300) كيلومترا، من بينها صواريخ صياد وسجيل. وصواريخ باليستية، أبرزها صاروخ “طوفان” يمتد مداه من (1350) كيلومترا إلى نحو (1900) كيلومتر. صواريخ “قدس2” و”قدس 3″، و”قدس 4″، هي صواريخ بالستية يمتد مداها من (1350) كيلومترا إلى نحو (2000) كيلومتر. لكنها تحتاج معلومات استخباراتية محدثة عن الأهداف عادة ما توفرها طائرات بدون طيار أو القوارب أو قوات الحلفاء في المنطقة. أمن البحر الأحمر والخليج العربي ـ التواجد العسكري.(4)
الطائرات بدون طيار
تمتلك جماعة الحوثي طائرات بدون طيار وأبرز تلك المسيّرات طراز “قاصف-1” وهي مزودة برأس حربي في مقدمتها، والطائرة الموجهة عن بعد “راصد”، وتحمل في الأصل اسم” Skywalker X-8″، ويستخدمها الحوثيون في مهام المراقبة
والاستطلاع، وطائرة الاستطلاع المسيّرة “رقيب” وكذلك “هدهد-1″، وترسانة الحوثيين المسيّرة “صمّاد” والتي صممت في الأساس لمهام الاستطلاع، لكن الحوثيين استخدموها كمسيّرة مفخخة في عدة هجمات. كما تمتلك الطائرة المسيّرة نوع “صماد 3” الانتحارية، ويمتد مداها من (1200- 1500)كيلومتر.إلى جانب طائرة “وعيد” المسيّرة، وهي طائرة مشابهة لمسيرة “شاهد 136” الإيرانية، ويصل مداها إلى نحو (2500) كيلومتر.(5)
زوارق انتحاريه
استخدمت جماعة الحوثي قوارب صغيرة محملة بالمتفجرات تعمل بالتحكم عن بعد. ويمثل حجمها الصغير تحديا لقوات المراقبة، ومن بين الطرق التي اعتمدتها أيضا عمليات إنزال عناصر بمروحيات أو قوارب، إذ يصعد العناصر على ظهر السفينة المستهدفة ويسيطرون عليها.
مصر والتداعيات
أمن البحر الأحمر هو عصب الأمن القومي المصري بالدرجة الأولى، ويواجه الاقتصاد المصري عددا من التحديات المُركبة، وأزداد بعد أن تحول البحر الأحمر وباب المندب إلى ساحة حرب بين الحوثيين في اليمن وقوى عسكرية غربية، وبدء السفن التجارية في تجنب مضيق باب المندب بين شبه الجزيرة العربية وشمال شرق أفريقيا، وعدم المرور عبر قناة السويس المصرية، وتحول جزء كبير من سفن شحن الحاويات والطاقة إلى طريق “رأس الرجاء الصالح” البديل حول أفريقيا، رغم أنه أطول وأكثر تكلفة للسفن، تعاني الحكومة المصرية من تراجع كبير في الإيرادات حيث شكلت هجمات الحوثيين على سفن الشحن المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر، أزمه كبيرة لمصر؛ مما وضعها في مأزق، سيؤدي الى عجز سداد الديون أو اللجوء إلى قرض جديد.
قالت المديرة التنفيذية لصندوق النقد الدولي كريستالينا جورجيفا في 1 شباط 2024، أن مصر خسرت في النصف الأول من يناير/كانون الثاني بمعدل 100 مليون دولار شهريا من إيرادات قناة السويس. وأكدت أن مصر تكسب عادة نحو 700 مليون دولار شهريا من رسوم عبور القناة وأن السياحة المصرية تعاني أكثر بكثير مقارنة بالسياحة في الدول المجاورة بسبب قرب مصر من الهجمات الإسرائيلية على غزة. وقالت: “إنهم يخسرون مئات المليارات من الدولارات(6)
أعلنت منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” في 25 كانون الثاني انخفاض حجم التجارة عبر قناة السويس 42% خلال الشهرين الماضيين؛ بسبب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر ضد السفن التابعة لدول الاحتلال الإسرائيلي، ما دفع مالكي السفن إلى تغيير مسارهم.(7)
إحصائيات
تعد قناة السويس أحد مصادر العملات الأجنبية في مصر، وبلغت عائدات مصر في السنة المالية 2022-2023، من القناة 9.4 مليار دولار من رسوم العبور، وقال رئيس هيئة قناة السويس “أسامة ربيع” مؤخرا، إن دخل القناة انخفض بنسبة 40% مقارنة بالعام الماضي، وتراجعت حركة السفن بين 1 و11 يناير/كانون الثاني الجاري 30% مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023. (8)
في المقابل، زادت حركة مرور السفن في المسار البديل حول أفريقيا، طريق رأس الرجاء الصالح، بنسبة 67% على الأقل لتفادي المرور في البحر الأحمر؛ خشية من هجمات الحوثيين، الذين يطالبون بوقف حرب مدمرة تشنها إسرائيل على قطاع غزة، بدعم أمريكي، منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.(9)
الموقف الصيني
حينما شعرت الصين، وهي مصنع العالم، بأن ثمة خطرا يهدد تجارتها التي تمر عبر البحر الأحمر نتيجة نشاط الحوثيين ذهبت إلى طهران، وقيل إن الموفدين الصينيين حملوا رسائل تتسم بالحسم بشأن التأثيرات السلبية المحتملة لهذه الهجمات على العلاقات بين بكين وطهران. للصين مبررها القوي، فالبحر الأحمر وموانئه أيضا جزء من مشروع “الطريق والحزام” الصيني، وحضور أمريكا في هذا الممر بذريعة منع الهجمات الحوثية على السفن التجارية، قد يمنح واشنطن فرصة كبيرة لزيادة سطوتها في هذه المنطقة الحيوية من العالم، خصوصا أنها تتصرف وفقا للقرار رقم (2722) الصادر في العاشر من كانون الثاني/ يناير عن مجلس الأمن الذي قد يرسي قواعد جديدة في القانون الدولي فيما يتعلق بتأثير الدول على أمن البحار الإقليمية، على حساب أدوار الدول المطلة عليه.(10)
الأزمة الإثيوبية مع الصومال
يشي التوجه الإثيوبي المدعوم من “الغرب” وإسرائيل. بعد توقيعها مذكرة تفاهم بداية هذا العام مع إقليم أرض الصومال يمنحها الوصول لخليج عدن، ويمهد الطريق أمام إثيوبيا لإقامة قواعد تجارية وعسكرية على امتداد ساحل الإقليم الصومالي، وهو ما يهدد مصالح القاهرة في أمنها القومي فضلا عن مايجري في السودان والبحر الأحمر وحوض النيل.
تقييم الموقف
ينعكس التواجد العسكري الغربي الكبير في البحر الأحمر على التنافس الصيني الأمريكي، حيث ترى بكين إلى أن الصراعات تُعزز من نفوذ الولايات المتحدة على حساب التمدد الصيني المعتمد على الجوانب الاقتصادية، وتنظر الصين بقلق لأنها تعتقد أن امريكا تسعى لتأجيج التوترات في البحر الأحمر بهدف محاصرة مبادرتها المعروفة باسم “الحزام والطريق” والتي تتخذ من البحر الأحمر نقطة التقاء الممر البري بطريق الحرير البحري، والتضييق على قاعدتها العسكرية الوحيدة في الخارج في جيبوتي.
العوامل الرئيسية لانجاز الخطط المتعلقة بالممر الاقتصادي الذي تم إطلاقه والتوقيع عليه في سبتمبر 2023، ويربط الهند بأوروبا، مروراً بالشرق الأوسط هو إ الاستقرار الإقليمي والأمن البحري، وبينما يتجه البحر الأحمر لصبح ساحة عسكرية تشهد تصادمات إقليمية ودولية، فذلك قد يترتب عليه تداعيات على مضيق هرمز وبحر العرب ما قد يجعل المشروع عرضة للخطر.
تزامن توقيع أثيوبيا مذكرة التفاهم مع ارض الصومال مع الحرب على غزه والمواجهات في جنوب البحر الأحمر مع اليمن يؤشر حجم المصالح الدولية في الإقليم وتنسيقها مع التوجه الإثيوبي ، ولا يستبعد منح أثيوبيا أدوار هامة في المستقبل القريب وعند اعادة الترتيبات الامنيه بعد انتهاء الحرب على غزه لخدمة الإستراتيجية الامريكية في المحيط الهندي.
لم تؤدي الضربات الجوية الامريكيه. الى أضرار كبيره بالقدرات العسكريه لجماعة “الحوثي” التي لازالن تحتفظ بقدرتها على إطلاق الصواريخ والطائرات من دون طيار على السفن التي تعبر البحر الأحمر وشن الهجمات المعقدة ويمكن وصف تأثير الضربات حدود لكن في حال القيام بحملة جوية مستمرة ومتواصلة لقطع خطوط الإمداد عنهم قد تستطيع من تحييد قدرات الحوثيين.
قد تدفع قرارت تصنيف جماعة “الحوثي” على قائمة الارهاب إلى تكثيف هجماتها البحرية وتوسيع نطاق السفن التي تستهدفها. فالتكنولوجيا التي تستخدمها جماعة الحوثي يسمح لها بإلحاق أضرار اقتصادية كبيرة، بوجود مراكز إطلاق صواريخ مطلة على البحر الأحمر وخليج عدن واستخدام الطائرات المسيرة والقوارب المفخخة الموجهة عن بُعد.
https://addiyar.com/article/2152316- المنطقة على فوهة بركان
_______________________________________
أفريقيا في تقييم تهديد الإرهاب العالمي 2024
صدر قبيل منتصف فبراير 2024 تقرير هام عن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (واشنطن) بعنوان Global Terrorism Threat Assessment 2024([1]) أعده ثلاثة باحثون بالمركز وتضمن قسمًا كبيرًا (هو الأبرز في حقيقة الأمر) مختصًا بالقارة الأفريقية وما تشهده من تهديدات إرهابية في أجزائها المتفرقة. وصُدِر التقرير بملاحظة مهمة (من وجهة نظر الولايات المتحدة الأمريكية اللاعب الأكبر في “الحرب على الإرهاب”) وهي أن الظاهرة لم تعد تمثل التهديد الدولي الرئيس للولايات المتحدة أو في قمة أولوياتها الدفاعية، لكن التحديات المرتبطة بالتطرف العنيف لا تزال قائمة رغم تراجع التهديد من الجماعات السلفية الجهادية مثل القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية واحتواء التهديدات الإثنية الوطنية ethnonationalist threats بشكل ملموس. وان ما بات أولوية في تهديد “الأمن الأمريكي” يتمثل في أيديولوجيات التطرف اليمينية واليسارية فيما لا يزال الإرهاب متداخلًا بطرق ملموسة مع ديناميات المنافسة الاستراتيجية لاسيما مع الجماعات التي تحظى بدعم دول مثل إيران حسب وصف التقرير، في إشارة تعبر عن الرؤية “الشخصية” الأمريكية لمجمل التهديدات الإرهابية من زاوية “الأمن الإسرائيلي”؛ ويعزز بالتالي استمرار هامشية تقدير خطورة استمرار الإرهاب في أفريقيا قياسًا لهذه الزاوية بشكل عام، ويكشف في مستويات تحليل أعمق موقع الظاهرة وتجلياتها أفريقيًا في ذيل المخاوف الأمريكية الفعلية.
تقييم تهديد الإرهاب العالمي 2024: نظرة عامة
جاء تقرير “تقييم تهديد الإرهاب العالمي 2024” في ستة فصول إضافة إلى فصل أخير يتعلق بتحريره. وخصص الفصل الأول (الذي جاء في 4 صفحات) لتناول “حالة الإرهاب” وضم التعريفات والمنهجية المتبعة في التقرير، وكذلك الفرضيات ثم النتائج الرئيسة؛ ومن اهم ملاحظات هذا الفصل تأكيده تناول الكيانات الإرهابية التي تشمل الجماعات الإرهابية ذات الدوافع الدينية والإثنية الوطنية الانفصالية، وحركات التطرف العنيف اليمينية واليسارية المتشددة، وقصد بالإرهابيين الدينيين “الذين يدفعهم نظام اعتقاد إيماني مثل المسيحية والهندوسية والإسلام واليهودية أو المعتقدات الأخرى”، وقصد بذلك تغطية كافة أشكال التطرف الديني في أرجاء العالم المختلفة، وكان ملفتًا نظر التقرير لشمول الجماعات التي تطالب “بتقرير المصير” لجماعات إثنية معينة ضمن الجماعات الإرهابية وهي نظرة يشوبها اضطراب كبير في السياسات العملية الأمريكية في القارة الأفريقية في فترات زمنية متفرقة (السودان، إثيوبيا، الصومال، وإريتريا على سبيل المثال). وخلص الفصل إلى إيجاز النتائج الرئيسة في ثلاث اتجاهات عالمية وهي:
- أن تهديد الجماعات السلفية الجهادية للغرب بات منخفضًا نسبيًا مقارنة بالعقدين الفائتين وأن هذه الجماعات مثل القاعدة و”الدولة الإسلامية” تفرض بالأساس تهديدًا محليًا أو إقليميًا.
- أن النظام البيئي الأيديولوجي الإرهابي يتنوع بشكل متصاعد، وأن التهديديات “الداخلية” التقليدية أصبحت تنتقل عبر الدول. إن أهم التهديدات الإرهابية الضاغطة التي تواجه الولايات المتحدة وأقرب حلفائها تأتي في الوقت الحالي من المتطرفين اليمينيين واليساريين المتشددين.
- أن دولًا “مثل روسيا وإيران” تقدم مساعدات مباشرة وغير مباشرة لجماعات وحركات التطرف العنيفة “كنوع من الحرب غير النظامية لتحقيق مصالحها السياسية والعسكرية”.
ويبدو من استقراء هذه النتائج غلبة المنظور “الوطني الأمريكي” الضيق على تفسير جميع ظواهر الإرهاب في العالم مما يثير بدوره تحفظات تقليدية حول تلك المقاربات حتى إذا تم استبعاد عوامل دور هذه المقاربات نفسها في صنع السياسات وتوجيهها أو مسارها العكسي.
وجاء الفصل الثاني من التقرير، وهي الأكبر حجمًا وأكثر تفصيلًا من بقية الفصول، ليتناول الشأن الأفريقي في نقاط بالغة التنوع -مقارنة بالفصول الأخرى- والشمول الجغرافي لأقاليم القارة من جهة تتبع الاتجاهات العامة للظاهرة وتقديم دراسات حالة منوعة تشمل إقليم غرب أفريقيا متضمنًا حالات مالي وبوركينا فاسو ونيجيريا والنيجر كحالات منفصلة ومجموعة دول في غرب أفريقيا كحالة مجمعة وتشمل بنين وغانا وتوجو وساحل العاج؛ ثم الكاميرون. ويتناول الفصل أيضًا حالة شرق ووسط أفريقيا شاملة حالات الصومال وكينيا وإثيوبيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية واوغندا وموزمبيق؛ ثم حالة الإرهاب في شمال أفريقيا.
وخصصت الفصول التالية (3-6) لتناول ظاهرة الإرهاب وتشابكاتها في الأمريكيتين؛ وآسيا وأوقيانوس؛ وأوروبا؛ والشرق الأوسط (بما فيه مصر)؛ ثم الفصل السابع والختامي الخاص بملاحظات تحرير التقرير.
تقييم التهديدات الإرهابية في أفريقيا: الدوران في حلقة مفرغة
وصف التقرير حضور الجماعات الإرهابية في أفريقيا بأنه الأعنف والأكثر انتشارًا جغرافيًا من بين أقاليم العالم المختلفة وأنها تتصاعد في التأثير بمعدلات نمو تفوق نظيرتها في أي إقليم آخر. وأن صعود وتوسع الجماعات السلفية الجهادية في إقليم الساحل قد دفع العنف إلى مستويات جديدة رغم تعرض الجماعات المنتمية للقاعدة والدولة الإسلامية في أجزاء أخرى من أفريقيا لضغوط عسكرية متزايدة. مع ملاحظة أن جماعة الشباب الصومالية “هي الوحيدة التي أبدت عزمًا على شن هجمات خارج أفريقيا”. وتحيل هذه القراءة بالغة القصور للتقرير -في هذا المثال- إلى استمرار النظر لأفريقيا “كوحدة جغرافية” وأن الإرهاب والجماعات الإرهابية نفسها تتحرك انطلاقًا من أيديولوجيات متماثلة، وأن عامل تمكن تلك الجماعات من شن هجمات خارج “أفريقيا” يمثل تهديدًا أوليًا “للغرب”؛ مما يعزز النظر لضحايا العنف والإرهاب داخل القارة كأرقام مجردة، وللدول المتضررة كساحات خلفية للحرب على الإرهاب إما لحماية المصالح الغربية مباشرة أو الحيلولة دون اعتماد الدول الأفريقية على أطراف منافسة للغرب (مثل روسيا والصين) لتعزيز قدراتها على مواجهة الإرهاب وجماعاته، وهو ما أشار له التقرير مباشرة بتأكيده أن “زيادة قدرات الكثير من هذه الجماعات يعني ارتفاع قدرتها على العنف، وأن أي تحول في أيديولوجيتها أو استراتيجيتها يمكن أن تزيد بقوة من خطر شن هجمات خارج مناطق عملياتها الحالية”.
- غرب أفريقيا
رصد التقرير الاتجاهات الرئيسة في إقليم غرب أفريقيا وأبرزها توسع عنف السلفية الجهادية وتزايد حدته، وتشكيل هذه الجماعات “التهديد الإرهابي الرئيس في غرب أفريقيا مع تزايد أنشطتها في كل دول الإقليم تقريبًا”. وتوجد أبرز هذه التهديدات في مالي وبوركينا فاسو حيث ارتفع عنف هذه الجماعات بشكل ملموس (مقارنة ببقية الدول). وشهدت دولًا أخرى مستويات أقل من العنف مثل بنين والكاميرون وتوجو رغم ملاحظة تطوير جماعات العنف وجودها في تلك الدول في الآونة الأخيرة. ولاحظ التقرير وجود مؤشرات على احتمال أن تتحول تلك الجماعات لنشاط أكبر في الدول المذكورة “إن مارست قوات الأمن ضغطًا أكبر على الأنشطة غير العنيفة للجماعات الإرهابية مثل التجنيد والتهريب واللوجيستيات، أو إن شهدت أيًا من تلك الدول نقلًا غير منظم للسلطة”. وبشكل عام فإنه من المرجح تعاظم العنف الإرهابي في الإقليم في السنوات التالية نتيجة لسيطرة تلك الجماعات على مساحات شاسعة وتمكنها من الوصول إلى موارد مالية (إضافية) مع تزايد عدم الاستقرار السياسي وضعف الحكومات بالدول المعنية. وفي المقابل أكد التقرير وجود دلائل قليلة على رجحان تحسن الوضع في مقابل سيناريوهات متشائمة لاسيما حال وقوع انقلاب في أي نظام ديمقراطي بالإقليم، أو دخول إحدى شركات شبه العسكرية الروسية في بوركينا فاسو، أو وقوع تمرد أو اضطراب مدني في تشاد.
ورصد التقرير ملاحظة هامة، ودالة على طبيعة الرؤية الأمريكية للإرهاب وكونه وفقًا لها “مرادفًا للجماعات ذات الخلفية الإسلاموية”، وهي تواجد “الجهاديون السلفيون جنبًا إلى جنب مع مجموعة متنوعة للغاية من الجماعات المسلحة التي لا تفرض تهديدًا إرهابيًا كبيرًا لكنهم يزيدون من تعقيد البيئة السياسية والأمنية”، ورصد التقرير عمل الجماعات الإرهابية في الإقليم مع تلك الجماعات المسلحة في أوقات مختلفة كما وقعت مواجهات بين الفريقين في أوقات أخرى، ويزيد تجنيد الجماعات الإرهابية لأبناء إثنيات معينة من قدرة الجماعات الإرهابية على التوسع في غرب أفريقيا مستقبلًا. وقد قادت كثافة العنف الإرهابي إلى تعزيز فرص نجاح الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو في العامين الماضيين. وقد صنفت كل من بوركينا فاسو وغينيا بيساو والنيجر والكاميرون ونيجيريا ومالي وتشاد ضمن قائمة عالمية لأقل 30 دولة في مؤشر الاستقرار السياسي وفق مؤشر الدول الهشة Fragile States Index “لكن عدم الاستقرار يسبق التهديد الإرهابي بالنسبة لغابية الدول المتأثرة (بالظاهرة)”.
ورصد هذا الجزء تطورات الحالة الإرهابية في مالي وبوركينا فاسو ونيجيريا والنيجر باعتبارها أبرز دول الإقليم التي تواجه تهديدات إرهابية ملحة، وتناول في جزء واحد تطورات الحالة الإرهابية في بنين وغانا وتوجو وساحل العاج.
وفي حالة مالي فإن الملاحظة الأولية للتقرير تمثلت في تمكن “الجماعات السلفية الجهادية” من السيطرة بالفعل على مساحات واسعة من البلاد، وتمدد عملياتها خارج حدود البلاد وهو الأمر الذي تزايدت حدته مع خروج القوات الدولية من مالي، وتعاظم قدرات الجماعة الإرهابية الأبرز في مالي وهي جماعة نصرة الإسلام والمسلمين (التي تحقق مكاسب مستمرة منذ تكوينها في العام 2017)، وتنافسها في الأهمية حاليًا “الدولة الإسلامية في إقليم الساحل”. ورصد التقرير تعاظم العنف المرتبط بهاتين الجماعتين في السنوات الأخيرة؛ وتبني التقرير رؤية بالغة التشاؤم إزاء مالي في الفترة المقبلة معتبرًا أن فرص تعاظم التهديدات الإرهابية تزايد في العام 2024 وما بعده ولمستويات أكبر لم تتحقق منذ العام 2012.
أما بوركينا فاسو فقد اعتبر التقرير أن ظاهرة الإرهاب والعنف المسلح بها ترتبط بالحالة في مالي وتتشابه معها في التمدد الجغرافي الملحوظ للجماعات الإرهابية بها في أجزاء متفرقة في شمال وشرق وجنوب غرب البلاد، وتوقعات بتزايد التدهور في هذا الصدد لمستويات تفوق ذروة التمدد الإرهابي في بوركينا فاسو (2021-2022). ورصد التقرير توقعات سلبية “في الغالب” كما الحال في مالي. إذ يتوع نشاطًا أكبر للجماعات الإرهابية في بوركينا فاسو وتهديد القوات الحكومية وسيطرتها على أراضي البلاد. وفيما يخص نيجيريا يلاحظ التقرير استمرار تجنيد العناصر الإرهابية وفق تقسيمات إثنية وحضور بارز وسط جماعات الفولاني. كما يلاحظ التقرير أن الجماعات الإرهابية في النيجر تتركز في مناطقها الغربية (على امتداد الحدود مع مالي). وكما جرت العادة فقد تناقضت تحليلات التقرير بشكل ملفت في مقاربة ظاهرة الإرهاب وربطها بالمصالح الأمريكية- الغربية في المقام الأول وليس بظروف الدولة المعنية؛ ومثالًا على ذلك لاحظ التقرير تراجع “معدلات العنف المتصلة بالجماعات الإرهابية في النيجر بشكل طفيف في العام 2022 لكن الانقلاب في العام 2023 في البلاد يمثل تهديدًا رئيسًا لجهود مواجهة الإرهاب في الإقليم”؛ فقد تجاهلت تلك الملاحظة حقيقة أن التهديدات الإرهابية في النيجر لم تتقلص في العام 2022 بل إنها شهدت توجهًا متراجعًا للمرة الأولى منذ انقلاب 2023، لذا جاءت الفقرة لتشير إلى تهديد “الانقلاب” لأنشطة مواجهة الإرهاب في الإقليم غير ذات صلة في التحليل على مستوى الدولة الوطنية بالأساس كما بدأ التحليل.
- شرق ووسط أفريقيا
توجد الكثير من الجماعات المسلحة خارج الدولة في شرق ووسط أفريقيا تتقدمها حركة شباب المجاهدين الصومالية؛ والقوات الديمقراطية المتحالفة (التي تعرف بالدولة الإسلامية في جمهورية الكونغو الديمقراطية) والدولة الإسلامية- موزمبيق (وتعرف بأهل السنة والجماعة، أو أنصار السنة، أو الشباب)، وتبرز حركة الشباب كجماعة وحيدة تستهدف -حسب التقرير- أهدافًا خارج “أفريقيا” (في دلالة على توجهات التقرير التي تتجاهل مشكلات القارة الأفريقية في مواجهة الإرهاب وتوظيف الظاهرة الأخيرة في سياسات الولايات المتحدة الخارجية في المقام الأول).
شملت تغطية القسم حالات الصومال وكينيا وإثيوبيا وموزمبيق وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا. وإجمالًا فقد رصد هذا القسم الاتجاهات الرئيسة للظاهرة الإرهابية في الإقليمين وأبرزها مواجهة جميع الجماعات فيهما هجمات مستمرة من حكومات الدول والأطراف متعددة الجنسيات مما ساهم في تقليل أنشطة تلك الجماعات بشكل كبير. وتوقع التقرير أن الهجوم الحالي ضد جماعة الشباب في الصومال لن يلحق الهزيمة بها في السنوات القليلة المقبلة بالنظر لكبر حجم قوات هذه الجماعة الإرهابية وقدراتها التمويلية الكبيرة والمتنوعة (قدر التقرير حصول الجماعة على 100-150 مليون دولار سنويًا من مجمل أنشطتها) قياسًا لمعظم الحركات الإرهابية في القارة، وتمتعها بتوغل كبير في وسط تجمعات صومالية كبيرة وفرض ضرائب على سكان بعض المناطق. وفي نفس هذا الاتجاه تحقيق مواجهة القوات الديمقراطية المتحالفة والدولة الإسلامية في موزمبيق قدر من النجاح لكن الجماعتين الإرهابيتين تمكنتا من تغيير تكتيكاتهما وواصلتا شن هجمات في الكونغو وموزمبيق.
ومن أهم الاتجاهات كون التقدم ضد مواجهة الحركات الإرهابية رهنًا بشكل كبير بالتغير في السياسة الدولية (مثال دعم كل من إثيوبيا وتركيا والولايات المتحدة للصومال في الحرب ضد جماعة الشباب حسب رصد التقرير، ودعم أوغندا لجهود جمهورية الكونغو الديمقراطية في حربها ضد القوات الديمقراطية المتحالفة، واستفادة موزمبيق من مشاركة قوات رواندية لمواجهة العناصر الإرهابية في شمالي البلاد.
كذلك رصد التقرير اتجاهًا رئيسًا يغلب على الجماعات الإرهابية في الإقليمين وهو ما وصفه بصبغها بتوجهات “الدولة الإسلامية” ISIS-ization مما يزيد من تهديدات المدنيين جراء أنشطة تلك الجماعات الإرهابية.
خلاصة
بلور تقرير “تقييم تهديد الإرهاب العالمي 2024” بشكل واضح مقاربات الولايات المتحدة وصناع السياسة بها تجاه قضايا الإرهاب في القارة الأفريقية عبر الجزء الخاص بهذه القارة (والذي ضم جزءًا خاصًا بشمال أفريقيا باستثناء مصر التي ألحقها بالشرق الأوسط في تناوله)؛ وعزز بالتالي القصور الغربي التقليدي في النظر لآثار هذه الظاهرة على مجتمعات وشعوب الدول الأفريقية وتطلعاتها للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على نحو يخدم مصالح تلك الشعوب ويخرجها من ربقة الاعتماد على التدخلات الخارجية في مواجهة ظواهر الإرهاب والتي لا تأخذ في اعتبارها -بفرض مساعيها الحميدة بالأساس- معالجة الأسباب الجذرية للإرهاب والتي لا تفترق عن طبيعة الدولة الوطنية وقصور تطورها وتراجع حقيقي في تطبيق نظم ديمقراطية حقيقية تعبر عن إرادات تلك الشعوب وتطلعاتها.
مستقبل استراتيجية مكافحة الإرهاب في ظل فترة “دونالد ترامب” الجديدة
حكيم نجم الدين
من المتوقع أن يتسلّم الرئيس الأمريكي السابق “دونالد ترامب” رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2025، وذلك بعد هزيمته لـ “كامالا هاريس” – نائب الرئيس الحالي – في انتخابات نوفمبر الماضي (2024). واعتمادا على رئاسته الأولى الأولى بين عامي 2017 و 2021 يمكن القول إن الاستراتيجية الأمريكية لمكافحة الإرهاب في أفريقيا ستتأثر تحت رئاسته الثانية، وخاصة أن واشنطن تراجعت مؤخرا عن انخراطها في أفريقيا بعد الاحتجاجات وطلبات المسؤولين في عدة دول أفريقية من القوات والقواعد العسكرية الغربية بمغادرة أراضيهم، مثل حالة إلغاء حكومة النيجر لاتفاقها العسكري مع واشنطن في مارس الماضي (2024)، مما أدى إلى فقدان قاعدة جوية عمرها ست سنوات. وهناك حالة أخرى دولة تشاد التي هددت بإنهاء اتفاقها الأمني مع واشنطن في أبريل 2024، مما أدى إلى انسحاب قوات العمليات الخاصة الأمريكية و75 فردا آخرين.
واشنطن واستراتيجية مكافحة الإرهاب في إفريقيا
تتشكل استراتيجية واشنطن لمكافحة الإرهاب في أفريقيا في الأساس من الجهود العسكرية والدبلوماسية. وكان الهدف الرئيسي لهذه الاستراتيجية منعَ انتشار الإرهاب في الدول الإفريقية الحليفة للولايات المتحدة أو المناطق التي تمثل مصالحها في القارة, وذلك من خلال المشاركة المباشرة في مكافحة الجماعات التابعة لتنظيمي “القاعدة” و “الدولة الإسلامية” (داعش)، مثل “جماعة أهل السنة للدعوة والجهاد” (الشهيرة بـ “بوكو حرام” والنشطة مع فصائلها في شمال نيجيريا ومنطقة بحيرة تشاد في غرب ووسط أفريقيا)، و “حركة الشباب المجاهدين” (النشطة في الصومال وأجزاء أخرى من شرق أفريقيا)، وخلايا الحركات الإرهابية المحلية الأخرى في الساحل.
وتشمل الاستراتيجية الأمريكية أيضا تبادل المعلومات الاستخباراتية والتدريب والدعم العسكري المباشر, حيث تلعب “القيادة الأميركية في أفريقيا” (أفريكوم) دوراً محورياً في التدخل العسكري الضخم للولايات المتحدة في الحرب ضد الجماعات الإرهابية في القارة عبر آليات مختلفة تضم المراقبة القائمة على الأقمار الصناعية للنشاط الإرهابي والطائرات بدون طيار والعمليات الخاصة في الصومال ومالي والنيجر وليبيا. إضافة إلى تبادل المعلومات الاستخباراتية بين الجيوش الأفريقية والوطنية وتزويد القوات العسكرية الأفريقية ووكالات إنفاذ القانون بالتدريب والمعدات والدعم اللوجستي لتعزيز قدراتها في مواجهة الإرهابيين.
وتضمنت جهود واشنطن العسكرية القوات والمهام الأمريكية في دول إفريقية مع تنفيذ غارات جوية وعمليات برية بهدف تشتيت الخلايا الإرهابية المرتبطة. وقد تعاونت واشنطن أيضا مع العديد من المنظمات الإقليمية العابرة للحدود والهادفة إلى معالجة القضايا الأمنية المختلفة في القارة، مثل “مجموعة دول الساحل الخمس” (التي أُسِّست بدعم فرنسي وضمت موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر وتشاد), و “قوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات” (التي تضم الكاميرون وتشاد والنيجر ونيجيريا وبنين بهدف مواجهة لـ “بوكو حرام” وفصائلها). بالإضافة إلى تعزيز التعاونات الإقليمية والقارية والاستفادة من مبادرات التعاون الإقليمي للاتحاد الأفريقي وإطار مكافحة الإرهاب في القارة.
وفي حين أن الولايات المتحدة عدّلت استراتيجيتها في وقت لاحق لتضم مبادرات مكافحة التطرف وتقديم المساعدة للدول الأفريقية عبر “الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” والتي تدير مبادرات معالجة العوامل المعززة للتطرف على أمل استقرار المناطق المستهدفة ومنع التطرف قبل تأزّمه؛ إلا أن جهودها في مكافحة الإرهاب بأفريقيا خضعت لانتقادات كثيفة بسبب تصعيد الصراعات وزعزعة الاستقرار وتغذية نمو الجماعات المتطرفة. ويعضد هذه المشاعر المنتقدة حقيقة أن استراتيجية مكافحة الإرهاب الأمريكية في القارة غالبا ما تعتمد على الوسائل العسكرية دون إيلاء الأهمية المطلوبة لمعالجة الأسباب الجذرية للتطرف والإرهاب. كما أن تقديم المساعدات التنموية لمكافحة التطرف غالبا ما يكون جزءا ضئيلا من الجهود العامة, ويُنفَّذ عبر اللوائح الأمريكية, الأمر الذي يجعل النهج الأمريكي وكأنه يضع أهداف الأمن قصيرة الأجل قبل التنمية والحوكمة اللتين هما من الأهداف طويلة الأجل، رغم أنهما – أي التنمية والحوكمة – عاملان ضروري لمعالجة العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تساهم في التطرف والإرهاب.
فوز “ترامب” في سياق استراتيجية مكافحة الإرهاب الأمريكيية
من خلال النظر إلى تصورات الأفارقة تجاه فوز “ترامب” بفترة الرئاسة الثانية وردود أفعالهم يُلاحظ أن الرأي العام في إفريقيا ينظر إلى رئاسة “ترامب” الجديدة بعين الريبة([1]). وهناك بعض زعماء أفارقة يعتبرونها عودة للسياسة المعاملاتية([2]), وبالتالي هنأوه فور ظهور بوادر فوزه في نوفمبر الماضي لتوقعاتهم بأن دولتهم ستستفيد من إدارته, وخاصة أن معظم هذه الدول لم تتمتع بعلاقات جيدة وأليات التواصل مع واشنطن تحت إدارة الرئيس “جو بايدن”.
وفي المقابل, توجد دول إفريقية قابلت فوز “ترامب” بفتور, حيث أن رئاسته الأولى أشّرت على أن أفريقيا سيُنظر إليها من جديد عبر العدسة الجيواقتصادية والسياسية من واشنطن، وأن الصين – الشريك التجاري والدائن الأكبر لأفريقيا – ستكون الخصم هذه المرة, مما قد يعني أن استراتيجية “ترامب” القادمة ستحاول إجبار أفريقيا على الاختيار بين الولايات المتحدة أو الصين. وهناك من بين هذه الدول الإفريقية تلك التي انتقدت تصريحات “ترامب” المثيرة للجدل تجاه إفريقيا خلال ولايته الأولى.
ومن الملاحظ أن هناك من قادة الحكومات الإفريقية من لا يكترث كثيرا بمن فاز بالرئاسة الأمريكية، حيث يحاولون مواصلة جهود بلادهم المعتادة للتعامل مع واشنطن بغض النظر عمن يرأسها. ولعل أبرز مثال على هذا دولة جنوب أفريقيا – حليف واشنطن الذي أصبحت علاقاته معها متوترة في العامين الماضيين بسبب الأزمة الروسية الأوكرانية والهجوم الإسرائيلي على غزة-؛ إذ أعرب “سيريل رامافوزا”، رئيس جنوب أفريقيا، بعد فوز “ترامب” في نوفمبر الماضي عن استعداده لتوسيع التعاون الوثيق والمفيد بين بلاده والولايات المتحدة في جميع المجالات, وأبدى حرص بلاده على تولي رئاسة مجموعة العشرين في عام 2025 مما سيعزز التعاون مع الولايات المتحدة التي ستتولى رئاسة مجموعة العشرين في عام 2026 (بعد جنوب إفريقيا).
ورغم أن من المرجح أن لا تؤثّر رئاسة “ترامب” الثانية في جهود جنوب إفريقيا و “مجموعة تنمية الجنوب الإفريقي” (سادك) لمكافحة الإرهاب وتهدئة الأوضاع الأمنية في موزمبيق والكونغو الديمقراطية؛ إلا أن هناك تساؤلات عن كيف سيكون تفاعل جنوب إفريقيا مع واشنطن في ظل حكم “ترامب” باعتبار موقف جنوب أفريقيا القوي ضد إسرائيل بشأن غزة وإحالة رئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” إلى المحكمة الجنائية الدولية.
وفي حالة نيجيريا، التي عادة ما تتجاهلها واشنطن في سياساتها الأفريقية؛ فقد هنأ رئيسها “بولا تينوبو”، “دونالد ترامب” في بيان قال فيه إن عودته إلى البيت الأبيض سيبشر بعصر من الشراكات الاقتصادية والتنموية الصادقة والمنفعة والمتبادلة بين أفريقيا والولايات المتحدة. وأبدى الرئيس النيجيري أمله في تعزيز الروابط بين أبوجا وواشنطن لدفع عجلة السلام وتشجيع التعاون الاقتصادي. ومع ذلك, لم يكن واضحا ما إذا كانت هذه البادرة من جانب “تينوبو” كافية لتشجيع واشنطن على تقوية دعمها لـ “قوة المهام المشتركة المتعددة الجنسيات” التي تهدف إلى محاربة الإرهاب في بحيرة تشاد، وخاصة أن المجموعة تضم دول من منطقة الساحل والتي يبدو أنها لا تولي اهتمامًا برئاسة “ترامب”، مثل دولتي تشاد والنيجر، اللتين تدهورت علاقاتهما مع الولايات المتحدة مؤخرا.
ويضاف إلى ما سبق أن هناك من زعماء دول إفريقية من بدأ إعادة ترتيب أوراقه للاستفادة من رئاسة “ترامب” الجديدة سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي. وتتضح هذه النقطة في كينيا التي ترددّ رئيسها “ويليام روتو” في تهنئة “ترامب”؛ إذ هناك علاقة وثيقة تربط “روتو” بواشنطن تحت رئاسة “بايدن”, ومن غير المرجح أن إدارة “ترامب” الجدية ستواصل هذا الدعم.
وهناك حالة أخرى في إثيوبيا التي كان رئيس وزرائها “آبي أحمد” من أوائل القادة الأفارقة الذين هنأوا “ترامب” على فوزه بالرئاسة؛ إذ وقعت إثيوبيا اتفاقية لبناء وتشغيل مرافق الموانئ مع أرض الصومال الانفصالية. ولكن هذا التحرك أغضب الصومال التي تعتبر الاتفاق غير قانوني واختراقا لسيادتها على أرض الصومال. وقد يفسر سرعة التهنئة من جانب إثيوبيا ما يُتوقع من رئاسة “ترامب” الجديدة أن تنحاز لجانب أرض الصومال باعتبارها مستقرّة نسبيا – من الناحية السياسية والأمنية – دون الكثير من المساعدات الأجنبية، بينما لا تزال الصومال تتعامل مع عدد من القضايا المعقدة، بما في ذلك أنشطة “حركة الشباب” الإرهابية.
ويؤكد على النقطة السابقة حقيقة أن “ترامب” سحب الجنود الأميركيين من الصومال خلال رئاسته الأولى التي اتسمت بسياسات “أميركا أولا”, بينما أعاد “بايدن” نشرهم بعد وصوله إلى السلطة الأمريكية. وهناك توقعات من أن “ترامب” في رئاسته الجديدة قد يسحب الجنود مرة أخرى من الصومال.
مستقبل مكافحة الإرهاب في ظل فترة ترامب الجديدة
كانت استراتيجية مكافحة الإرهاب خلال رئاسة “ترامب” الأولى مبينة على سياسة خارجية قائمة على العمل العسكري والخطاب الشعبوي, وتأثّرت بسياسات تأكيد الدفاع عن المصالح الأمريكية مع عدم الثقة في التعاون العالمي، والميل إلى التحرّك والقرار أحادي الجانب دون إيلاء أهمية للعمل والقرار متعدد الأطراف.
وبناء على هذا النهج، يمكن التنبؤ بمستقبل استراتيجية مكافحة الإرهاب في ظل رئاسة ترامب الجديدة من خلال أربعة نقاط رئيسية, هي:
أ- إعطاء الأولوية لمبادرات مكافحة الإرهاب التي تعزز المصالح الوطنية الأمريكية: أن إدارة “ترامب” في رئاسته الأولى أعطت الأولوية لنهج “أميركا أولا” وركّزت على الملفات التي أثّرت بشكل فوري على الولايات المتحدة. وعلى هذا الأساس يُتوقّع أن تركز استراتيجية مكافحة الإرهاب الأمريكية تحت إدارته الجديدة على الدول أو المنظمات التي تهدد المصالح الأميركية بشكل مباشر، مثل الجماعات التابعة لـ “داعش” والقاعدة في منطقة الساحل والصومال ونيجيريا. وقد تشهد هذه الاستراتيجية تفويض المزيد من السلطة لحلفاء واشنطن أو الحكومات المحلية وتقليص حجم القوات الأميركية في أفريقيا على غرار ما فعله خلال رئاسته الأولى في دول مثل الصومال.
ويعني هذا أيضا أن إدارة ترامب الجديدة قد تطلب من الدول الأفريقية تحمّل العبء المادي الأكبر من أنشطة مكافحة الإرهاب, وقد تستيعين بشركات أمنية خاصة للقيام ببعض العمليات العسكرية، مع استمرارها في إصدار قرارات عسكرية أحادية الجانب, أو القليل من التشاور مع الأطراف الرسمية الإفريقية، والتركيز على أهداف “عالية القيمة” داخل الجماعات الإرهابية، وذلك اعتمادا على أفعاله في رئاسته الأولى وتأييده لاستخدام طائرات بدون طيار وعمليات القوات الخاصة في الحرب ضد الإرهاب.
ب- التحول نحو الشراكات الإقليمية والمحلية: وذلك باعتبار أن “ترامب” في رئاسته الأولى فضّل العلاقات الإقليمية والمحلية على التعاون الدولي لمكافحة الإرهاب. وقد يعني هذا في سياق إفريقيا إعطاء إدارته القادمة الأولوية لتعزيز القدرات الأمنية والعسكرية للقارة بهدف محاربة الجماعات الإرهابية من خلال تقديم المزيد من التدريبات المكثفة أو الأسلحة المتطورة أو الدعم الاستخباراتي للأنظمة التي تكافح الجماعات الإرهابية والمتطرفة في الدول التي قد يعتبرها “ترامب” قوية أو استراتيجية.
وقد يؤدي هذا أيضا إلى إقامة علاقات أوثق مع القادة الأفارقة الذين يعتبرهم ناجحين في مكافحة الإرهاب بغض النظر عن طبيعة حكمهم أو تُهَم الجرائم الموجهة إليهم, حيث أن سياسة “ترامب” الخارجية غالبا ما تُتَّهم بدعم الحكومات الاستبدادية طالما أنها تخدم المصالح الأمريكية. بل ليس من المستبعد أن يشمل هذا أيضا التنازلات التجارية أو الأمنية أو الدبلوماسية من جانب واشنطن لصالح الدول الإفريقية, أو استخدام إدارة “ترامب” لصفقات تجارية وعقوبات اقتصادية لإجبار بعض الحكومات الأفريقية على دعم أهدافها الخاصة لمكافحة الإرهاب.
ج- الإرهاب كأداة جيوسياسية: وذلك باعتبار تحركات واشنطن الأخيرة لاستعادة نفوذها في إفريقيا وخطابات “ترامب” المختلفة التي توحي بأن موضوع الإرهاب قد يُتَداول تحت إدارته القادمة من خلال المنظور الجيوسياسي، وخاصة في ضوء النفوذ المتزايد للصين وروسيا في أفريقيا. وعلى هذا الأساس قد يستخدم “ترامب” مساعدات مكافحة الإرهاب كأداة تفاوضية للحد من النفوذ الصيني والروسي في المناطق الأفريقية الاستراتيجية والأكثر أهمية لمصالح واشنطن الاقتصادية, مثل الساحل أو القرن الأفريقي أو وسط أفريقيا.
وباعتبار عدم اهتمام “ترامب” بإفريقيا وعدم اهتمامه بالمنظمات الدولية والتعددية؛ فقد تكون تعاملات إدارته مع عدد قليل فقط من زعماء الدول الإفريقية ذوي التفكير المماثل, أو مع التحالفات الحكومية الإفريقية المؤقتة التي تتوافق مع المصالح الأميركية، وبالتالي تصبح استراتيجية إدارته لمكافحة الإرهاب أقل اعتمادًا على عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة ومبادرات الاتحاد الأفريقي والهيئات الإقليمية الأفريقية.
د- نهج أكثر هجومية: وذلك لأن نهج “ترامب” في ولايته الأولى اتسمت بصرامة وعمليات أكثر هجومية, وخاصة أنه ركّز على الجهات الفاعلة غير الحكومية واعتمد بشكل كبير على الضربات الجوية لتصفية الإرهابيين رفيعي المستوى وقادتهم. وقد يستمر هذا النهج في إفريقيا بالتركيز على الجماعات مثل “بوكو حرام” و “حركة الشباب” وفصائل “داعش” الأخرى في إفريقيا. وقد تقرن إدارته مع هذا النهج فرض العقوبات للضغط على الحكومات أو الجماعات المرتبطة بالإرهاب والمتهمين بتمويله أو توفير ملاذ للإرهابيين في القارة.
خاتمة
من المحتمل أن تكون استراتيجية واشنطن لمكافحة الإرهاب في إفريقيا – تحت إدارة “ترامب” الجديدة – على النقيض من النهج المتبع خلال إدارة “بايدن”، لأن نهج “ترامب” في السياسة الخارجية، وخاصة موقفه من مكافحة الإرهاب، يتسم بميله إلى العمل الأحادي الجانب، وعدم الثقة في التعاون متعدد الأطراف، مع التركيز على المصالح الوطنية الأميركية. وهذا يعني أن مستقبل سياسة مكافحة الإرهاب الأميركية في أفريقيا في عهده الجديد قد يتسم بنهج أكثر معاملاتية والتركيز على الاستجابات المرتبطة للتهديدات المباشرة للاقتصاد والأمن القومي الأميركي سواء من خلال تنفيذ الضربات العسكرية أو تشكيل التحالفات الإقليمية والمبادرات الرامية إلى الحد من النفوذ الصيني والروسي في القارة. وهذا النهج قد يولي الأهمية على الأهداف قصيرة الأجل فيتجاهل التداعيات الإنسانية والمخاوف المتعلقة بعمليات مكافحة الإرهاب والاستقرار وغيرهما من الآثار طويل الأجل في المناطق المستهدفة.
[1] – Carien du Plessis, Kanika Saigal, Nicholas Norbrook, Sheriff Bojang Jnr (2024). “How is Africa greeting a Trump victory?” The Africa Report, retrieved from https://shorturl.at/DC13X (اطلع عليه في 9 ديسمبر 2024)
[2] – Bright Simons (2024). “Opinion: What Trump’s second presidential term means for Africa.” The Africa Report, retrieved from https://shorturl.at/MB3Xw (اطلع عليه في 9 ديسمبر 2024)
[1] Doxsee, Catrina, Palmer, Alexander and MoCabe, Riley, The Global Terrorism Risk Assessment 2024: A Report of the CSIS Transnational Threats Project, Center for strategic & International Studies, New York, February 2024.
https://www.europarabct.com/ أمن البحر الأحمر والخليج العربي ـ ماحجم تهديد الحوثيين للسفن
https://asharq.com/defense/77343/ أسلحة الحوثيين التي تهدد البحر الأحمر: صواريخ باليستية ومسيرات وزوارق مفخخة
https://www.europarabct.com/ أمن البحر الأحمر والخليج العربي ـ ماحجم تهديد الحوثيين للسفن
https://www.aljazeera.net/ebusiness/2024/1/26/ التجارة عبر قناة السويس تنخفض 45% إثر هجمات البحر الأحمر
https://www.snabusiness.com/article/1631299-م 9.4 مليار دولار.. إيرادات تاريخية لقناة السويس المصرية
. https://thenewkhalij.news/article/312477